ينظر الكثير من المتابعين للفعل التشكيلي الذي يقدمه بينالي الشارقة للفنون في دورته الثانية عشرة والذي يختتم يوم ٥ يونيو/ حزيران الجاري، بأنه يأتي في سياق دعم المدارس الفنية المعاصرة، والحداثية، الخارجة عن كلاسيكيات الفنون التشكيلية، إذ يتوقف المتابعون عند الجانب الظاهر من الأعمال المشاركة ومرجعيات الفنانين الذين يعكسون جانباً من المشهد التشكيلي في البلدان التي يمثلونها. ليس غريباً أن يأخذ البينالي هذا الطابع، إذ مقارنة بسائر الفعاليات والملتقيات التشكيلية القائمة في الحركة الفنية الإماراتية، يبدو البينالي منحازاً للفنون المعاصرة بكل تجلياتها، وتحولاتها، فيفتح بابه لمشاركات مغايرة متفلتة من قواعد العمل الفني المحصور بالقماش المشدود على الإطار، والورق. ولا يأتي ذلك في سياق عبثي قائم على المغايرة والتجديد وحسب، إنما ضمن الرؤية التي يطرحها البينالي كل عام، والذي جاء هذا العام تحت شعارالماضي، الحاضر، الممكن، فنسج علاقة تاريخية على بوادر الفعل الحداثي قبل عقود ماضية، مشكلاً بذلك نظرة استشرافية لمتغيرات الفعل التشكيلي الجمالي. في ظل هذا الفعل يجد المتابع الدقيق للأعمال المشاركة في البينالي الحالي، أو دوراته السابقة، أن العمل الفني، والفنانين بكل عبثيتهم وتحررهم، وانحيازهم إلى الذهنية وفلسفة العمل الفني، لم يستطيعوا الخروج تماماً من أصل العمل الفني المتمثل في جذوره بالخط، واللون، والتكوين. هذا الجذر الذي يشكل أصل أي فعل بصري عرفته البشرية، هو الركيزة الأولى التي لم يستطع الفنان منذ مئات السنوات وحتى اليوم الانعتاق من سطوته، وما كل ما يجري من عمليات تغيير وتطور على الفعل الفني، إلا اشتغال على الإمكانات التي يمكن أن يوفرها كل من الخط، واللون، والتكوين. تظهر تلك الملامح بأشكال عديدة وبوسائل متعددة، فمنها ما يقدم باللون على سطح القماش، ومنها ما يتحرك في الفيديو، ومنها ما يتشكل على الشاشة الإلكترونية، إضافة إلى المنحوتة، والشكل المعماري، ويحافظ على أصله عبر الخط، واللون، والتكوين، فصورة الرجل، أو الشجرة، أو البيت في فيديو فني، ليست سوى تنويع في استغلال جذر الفعل البصري، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالأعمال التركيبية، والصور الفوتوغرافية، وغيرها من تقنيات إنتاج العمل الفني. بالنظر إلى الأعمال المشاركة في البينالي لهذا العام، لا تبدو رهينة ذلك الجذر الأصيل وحسب، وإنما تستمد عناصرها من كلاسيكيات الفن التشكيلي بكل مراحله، ففي عمل الفنانة ليونور أنتونيس تستند الفنانة إلى الفنون والحرف اليدوية القديمة التي عرفتها الحضارات القديمة في إطارها الإنساني، إذ لا ترجع إلى تلك الفنون وتستفيد من تقنيات صناعتها وحسب، بل تستفيد من الأشكال التي كانت تقدمها، فتظهر في أعمالها زخارف هندسية تتشابه في تكوينها مع الزخرفة في الفنون الإسلامية القائمة على التكرار والشكل الدائري والرسوم الدقيقة. كما ينكشف ملمح آخر في أعمال الفنان جاك ليرنر الذي طرح تجربة لافتة مشغولة بالعملات النقدية المصنوعة في مصفوفات حلزونية ودائرية متراصة، إذ لا يستفيد الفنان من رمزية الورقة النقدية والفكرة التي تتكرس في ذهنية المتلقي، ولا حتى يستفيد من شكلها المستطيل الرقيق، وحسب، وإنما يعود إلى جماليات الرسوم عليها. وإذ يستفيد الفنان من تلك الرسوم والخطوط المزخرفة على الورقة النقدية فإنه في واقع الأمر يستفيد من مدارس الفن الواقعي الكلاسيكي، حيث تتبدى بورتريهات لرؤساء دول، ومعالم حضارية، ومعمارية، مشغولة بواقعية عالية، وكذلك تظهر النصوص المرسومة بخطوط كلاسيكية معروفة في عدد من اللغات، ذلك إضافة إلى الزخارف النباتية والهندسية التي ترتسم على أطراف الورقة النقدية. إضافة لذلك لا يشكل العمل الفائز في جائزة البيناليمتحف الزراعة العالميالذي تقدمه الفنانة أسونسيون مولينوس غوردو، والتي حولت واحداً من المباني المهجورة المحاذي لميناء الشارقة، إلى متحف يعرض الخضر والمحاصيل التي تقدمها بلدان العالم، لا يشكل سوى عرض لسلة من تكويناتالطبيعة الصامتةالتي تتماثل في أصلها مع الشكل الذي لطالما كان نموذجاً لتدريب الفنانين على نقل الطبيعة والتعامل مع الظل والنور. في هذا العمل توزع الفنانة نماذج مصغرة بلاستيكية وورقية للفاكهة وللخضراوات، تتوزع في فضاء الغرفة، مصحوبة بنصوص وشروح، قائمة في إطارها على الجذر الجمالي للفعل التشكيلي بصورته الأصيلة.
مشاركة :