سيجارة «المارلبورو» بين شفتيها المتيبستين، تمجها بهدوء، تلتهب الجذوة مخلفة إثرها طفوا رقيقا، لا يلبث حتى يتناثر لأدنى حركة فوق الطاولة الصاجية. المنفضة أمامها ممتلئة بأعقاب السجائر، يحاذيها كوب بوشالة النسكافيه. لتكتكة ساعة الحائط وقع رتيب يوحي برتابة الزمن وخطوه الثقيل. تخطت الثانية، ثمة ساعتان أخريان ليبزغ الفجر معلنا ولوج صباح جديد، أو لعله ملل جديد. كأن ميل الساعة يلتف حول عنقها، جعلت من أصابعها حائلا دونه، قطعته بقوة، نظرت لكفها المضمومة، سلسال قلادتها يتدلى، فيما تساقطت خرزاته في حجرها على دانتيلا روب النوم، لتكمل مسيرها المنحدر نحو الأرض، متفرقة حول قوائم الكرسي والطاولة. صوبت نظراتها نحو الشرفة، اعتادت الوقوف عليها، تطل من عل على الشارع الغاص بالمارة والسيارات. أشاحت بوجهها عن خاطر مزعج ما برح يقرع معاقل فكرها. كثر ما تخيلت نفسها تشق الهواء الطلق في سقوط متوهم، يهشم هيكلها العظمي ويفلق جمجمة رأسها. رسوم متحركة تظهر في التلفاز الذي نقبت بقنواته حتى كلت أصابعها، لم تعثر على ما يسليها أو يذهب عنها غمامة حزن تدلهم في فضاء الشقة. تركته على «سبيس تون» ثم أخرسته، ليظل «توم» يلاحق «جيري» في مطاردة أبدية لا تنتهي، طالما أزعجت بها أباها إبان طفولة لم يبق منها سوى طيف رجل، يحتضنها ويحملها على كتفه دائرا بها أنحاء البيت. عبت نفسا من الهواء إثر شعور بالاختناق كتم عليها، رغبة جامحة للصراخ تصطخب في جوانحها، جبل دهني يطبق على صدرها، كآبة تستبيح سعادة موهومة استرقتها في غفلة من الزمن. منذ أيام والغثيان يغمرها. - حتى النت لا يجدي نفعا. عقارب الساعة تحملها نحو يوم جديد، لا يختلف عن سابقه شيئا، عدا استقبالها الغد وهي وحيدة، دون الثرثرة مع أصدقاء افتراضيين. لاحت لها صورة حبيبين رأتهما في المقهى، نظرات دافئة يرنوان بها لبعضهما البعض، همسات لطيفة، ضحكات بريئة. ثمة طاولة أخرى تحلقت حولها أسرة صغيرة من أب وأم مع ابنتهما التي طفقت تدور بين الموائد حتى وصلت إليها. تجهمت بوجهها، فهربت الصغيرة في وجل. هاتفها الخليوي يرن في غرفة نومها، لعله صديقها الأثير، لقد سأمته، بل كرهته.. بعد مغادرتها المقهى، آثرت أن تجوب الأسواق في تجوال غير محدود. لفت الشوارع كأنها ملاح تائه ضل طريقه في عرض البحر، وشرع يبحث له عن مرسى. آبت لشقتها مصدوعة الرأس، بعد دوران في دوامات المحلات المزدحمة بالبضائع والمشترين، تزعجها أصوات الباعة التي لا تكف عن الزعيق. ما إن دلفت الصالة حتى ولجت غرفتها، واندست تحت غطاء ناعم، لم يزدها تدثرها في الفراش سوى أرق على أرق. تقلبت، أخذت تعد من الواحد إلى المئة، ملت من العد. عقارب ساعة الحائط تدك رأسها، تناولت قارورة عطر من فوق الكوميدينة، رشقتها بها، فتكسر زجاجها ثم ترجرجت قليلا لتهوى متهشمة على الأرض. النوم يجفوها، انسلت من على السرير، خرجت، دخلت الحمام، تعرت، تملت نفسها في المرآة. قوامها القصير وجسدها الغض الطري، بياضها اللبني،عيناها الواسعتان، ردفاها الناهضان ونهداها المتوثبان كعجينتين ملمومتين. استلقت بحضن البانيو، تدفق الماء الساخن من تحتها، غمرها، تفتحت مسامات جلدها، حمي الدم في أوردتها، أغمضت عينيها، سرحت في عالم آخر، تمنت لو تسمر الكون وتوقف الزمن، لبقيت هكذا في انتشائها العجيب. ملت من الجلوس، فتململت في مكانها، نهضت كدولفين يقطر ماء، ارتدت ملابسها الشفافة فوق جسدها المبتل، جلست على كرسيها، بعد أن صنعت لنفسها القهوة. ها هي منذ ساعات في مكانها، تحرق السيجارة تلو الأخرى، سرى الغثيان لكل مفاصل جسمها. أين تجري بها الأيام، عمرها يذهب سدى، تود لو أنها تطلق صرخة تتصدع لها كل هذه الجدران المزخرفة. رفعت ذراعيها عن الطاولة، أحست بالتصاقهما، كل ما يحيط بها دبق، اللزوجة تعم الأرجاء. نظرت إلى الساعة، ليس لها معنى، وكأنها تتموع، تذوب، تسيح على الحائط، اغرورقت عيناها بالدموع، ثم أجهشت في البكاء. مسحت خديها الخضلين براحتي كفيها، نهضت عن كرسيها. خطواتها ثقال وهي تتهادى نحو الشرفة، نفحتها نسمة باردة، تخللت أصابعها شعرها الناعم، فرغ الشارع من المارة، وأقفلت المحلات. دهمها الخاطر المزعج نفسه، أغمضت عينيها، ثمة ساعة بمنبه تبزغ وسط عتمة متناهية الظلمة تحت جفنيها المطبقين، ساعة أخرى، ثالثة ورابعة، مئات الساعات الجدارية واليدوية تملأ سرمديتها، كلها تتحرك، تتراقص، تدور فيدور رأسها بدوار دارت بفعله حول نفسها، فاستندت بيدها على الحائط. تمتمت في سرها: - أما آن للزمن أن يتوقف؟ عبت نفسا عميقا وزفرته بغيظ لاهب، قدمت يسراها وأتبعتها بقدمها اليمني، ثم تسورت الحاجز النحاسي للشرفة!
مشاركة :