«أطلقتْ المسميات كلها إيذانا ببدء التفكير بالموضوع، المهم أن تكون سعيدة في ما بعد، فالخيارات ضيقة على»بنت الأربعين«ولن تحظى بعريس الغفلة إلا«ناقصا»، تقول هكذا في عقلها الباطن ولكنها أمدت المأذون بقوة قبولها به، يبدو ابن حلال و«هادئاً» لا يحتاج لأكثر من عُكازةٍ يطرق بها على دربها المظلم، لقد قررت أن تجد نفسها عُكازة في يده بدلا من أخرى يابسة قد تموت متفتتة من وحدتها». الآن تبدو عكازتها القوية... تهوى الإسفلت الذي يطرق بعصاة عليه، إنه رجل آخر... ينفث صبره «لذيذا» ينساب بين الجميع فلا يتجاوز أيا منهم حاجز روعته إلا بإمضاء التحية لـ«العم صابر». اهتز المنبه معلنا قدوم الثالثة فجرا؛ فقد أوثق ربطه الليلة الماضية، أفاقت الزوجة وقد أخذت تُقلّب عينيها من فرط النعاس، بادرها بطلب العودة إلى النوم ثم قبلها متنعما بالملمس الوردي لثوبها، عليه أن يتخطى هذا الثقل من الدرجات المهترئة تحت منزله الظاهر علنا في قلب المدينة القديمة؛ فقد تجاوزت المئتين حين عدها تمهيدا لتقديم طلب إصلاحها من البلدية، إنه يتحضر لعمله «الفجري فقط»، يمسك بعصاه من الوسط ويتكئ على أطراف الجدار الخشبي؛ الواقع أنه ذلك السور الوهمي الذي يحمي علو بيته يسميه جداراً كنوع من البحث عن الأمان النفسي. يضبط عيار أنفاسه فور هبوطه على الأرض ويبدأ مشوار اللجوء إلى معبده الذاتي، بالطبع لا تبدو الطريق كلعبة انزلاق مائي فقد تهتكت جزيئات إسفلتها منذ زمن وصارت عبارة عن مستنقع من الحفر يحتاج المرء لشهادة حسن سير وسلوك خاصة به، يتجاهل ما تحاكيه نفسه ويكمل معتمدا على حس يبدو أنه اقترن به كرد فعل تلقائي. اعتاد أن يجرّد ليل المدينة من صخبه... يُسقط على الجو طقوس حركته فلا يتردد في المكان سوى أصداء لدقات ساعته اليدوية، لقد حصل عليها في حفل تكريم حفظة القرآن الكريم وهي الثروة الوحيدة التي تشعره بأن كل شيء له، فيبدو كملك انغمس بغرور سلطانه حين «يلاطفه» أحدهم باستفسار عن الوقت، يتلمس ضوء القمر وكأنه يطبق على كرة من نور ويدغدغ مخيلته بآخر صورة له، كانت منذ الخامس عشر من مايو قبل ثلاثين سنة، تبدو مدة طويلة جدا على غياب صورة ولكنه لا ينسى أن يسأل عن حال الأشياء... فالقمر ما زال كما هو والشمس أيضا، أخبروه أن حال المدينة القديمة هو ما تغير، فلم يبقَى منها إلا بيته «ذو المئتين» درجة وتلك النتوءات التي تكيف معها في طريقه إلى المسجد وذلك القوس فوقها، يمشي مستقيماً دون أن يحتاج لتلمس الجدران الرطبة في أزقة المدينة وكأنه يقرأ كتاب الأدب الإنكليزي الذي أجاد تلمس حبيباته في الجامعة، لقد اعتبروه معجزة حين حصل على مرتبة الشرف في حفلة التخرج الجامعي وصدحت كل الميكروفونات بالتحايا العطرة لجهده، واليوم لا يَسمع سوى صمت الليل. يعود ليحس بعقارب ساعته، وتخبره بأن ينعطف يمينا حيث تجثم بقعة نوره الكبيرة، يرتاد الساحة أولاً ويستنزف قدراً من الحنفية، يبسمل، ثم يتيامن في غسل يديه، يتمضمض، فيستنشق، يغمر وجهه فيعمم الماء على يديه حتى المرفق، ثم يمسح على رأسه فأذنيه حتى يغسل قدميه، ثم يدخل إلى مسجد المدينة المرتبط ببقية المساجد كمغناطيس تتجاوب معه كلما انطلق من مئذنته نفساً، «العم صابر» يستعد لممارسة طقوس وجوده الأصلي فيأكل تمرة تتلوها كأس حليب، ثم يقترب من الميكرفون «الله أكبر... الله أكبر... أشهد أن لا إله إلا الله...» وتصحو المدينة على أجمل صوت كانت قد حلمت به. * كاتبة وصحافية فلسطينية
مشاركة :