يمكن القول إن ارتباط النشاط المسرحي في البلاد العربية ببعض الفرق الرسمية و(شبه) الرسمية، واعتماد هذه الفرق على الدعم الذي تقدمه الدول، في المناسبات السنوية أو الدورية كالمهرجانات، والذي قد يأتي أو لا يأتي، إضافة إلى التزايد المطرد في أعداد المشتغلين بالمسرح بمقابل ضآلة فرص العمل والظهور، كل ذلك أدى إلى سيادة أنماط معينة من العروض والموضوعات والأساليب والاستجابات المسرحية، ليس من بينها، في الغالب، ما يتصل بما يعرف بـ «المسرح الثنائي»، أو «الديودراما» الذي يرتكز على ممثلين اثنين فوق الخشبة؛ فهذا النوع من المسرح على رغم من أنه غير مكلف مادياً، على الأقل مقارنة بمسرح الشخصيات المتعددة، إلا أنه لا ينسجم مع تقاليد الفرق في الإنتاج، وفي تشغيل عضويتها، وفي الانتفاع بالتمويل الرسمي الذي تتلقاه، وفي طموحاتها المتعلقة بنيل جوائز المهرجانات. من هنا لا تميل الفرق المسرحية العربية إلى صناعة عروض يقل عدد الممثلين فوق خشبتها عن ثلاثة إلا في أحوال نادرة، وإلى جانب الأسباب الفائت ذكرها يمكن الإشارة بالطبع إلى أن أحوال عالم اليوم، مع التأثير الواسع لتيار التعددية الثقافية، بات من الصعب مقاربتها فنياً عبر منظورين فحسب. بيد أن المتتبع للنشاط المسرحي في البلدان العربية يلاحظ أن السنوات الخمس الأخيرة شهدت ولادة ثلاثة إلى أربعة مهرجانات متخصصة في عروض الديودراما، خاصة في دول مجلس التعاون الخليجي، ومن بينها مهرجان المسرح الثنائي الذي تنظمه إدارة المسرح بدائرة الثقافة بالشارقة وتجري فعالياته في المركز الثقافي لمدينة دبا الحصن، وهو يعتبر أول مهرجان للعروض العربية ـ من خارج منطقة الخليج ـ تقيمه الإمارة داخل الدولة. لعل أول ما أثار الانتباه في مشهد الدورة الخامسة للمهرجان التي نظمت أخيراً (13ـ 17 فبراير)، هو الإقبال الجماهيري الواسع الذي عرفته التظاهرة، وبدا ذلك ملفتاً لكون المهرجان يعنى بنوع من العروض المسرحية محدود الشعبية، كما سلف، كما أن المهرجان يعد الأول من نوعه في المدينة إذ لم تسبقه مناسبات مسرحية مماثلة؛ وفي سنوات معدودة نجح في بناء وتطوير علاقة حيوية مع الجمهور، ولعل ذلك يثبت أن ثمة قابلية لدى المتفرجين، بشكل أولي، للذهاب إلى المسرح متى ما وجدوه، واعتادوا على استقراره واستمراريته، على رغم كثرة خيارات الفرجة والترفيه في هذا الزمن. وإلى جانب العرضين الإماراتي «أنا معك» من تأليف جمعة علي، وإخراج عبد الرحمن الملا، والمغربي «عبث» من تأليف وإخراج إبراهيم روبيعة، ونشرت «الاتحاد» قراءتين حولهما في وقت سابق، قدم المهرجان ثلاث مسرحيات، منها مسرحية «مكان مع الخنازير» التي كتبها الجنوب أفريقي أثول فوغارد، وأخرجها للمهرجان المخرج المصري جمال ياقوت، وهي مسرحية ذات طابع نفسي، وهي تربط بين طفولة المرء وشبابه ربطاً حيوياً؛ بحيث يبدو كل ما عشناه في مرحلة الصغر منهجاً في عيش أيامنا عندما نكبر. في كتابته النص استند فوغارد على خبر قرأه في صحيفة يومية وهو يحكي عن جندي سوفييتي هرب من الجيش على أيام الحرب العالمية الثانية، وظل مختبئاً في حظيرة خنازير لأربعة عقود زمنية، وحين ظهر أخيراً ـ بعد أربعين سنة ـ كان كل ما يسأل عنه هو هل سأعاقب؟ ولكي يتحول الخبر إلى نص مسرحي، رسم فوغارد حياة متخيلة لهذا الجندي، إذ قدمه منذ أن كان طفلاً يعشق الكائنات والأشياء الرقيقة من حوله، مثل «الفراشات» و«السناجب» و«الأحذية الصوفية»، إلخ. استمتاع الطفل بهذه التفاصيل الصغيرة كان يزعج والده الخشن والقاسي، كما ظهر في عرض ياقوت، فالأب كان يريد لطفله أن يكون رجلاً قوياً، ولذلك كان يرى في الانشغال بهذه الأمور ما يدل على الضعف والليونة، وحتى ينفرّه منها كان الأب يضرب طفله ضرباً مبرحاً كلما رآه متعلقاً بها. وتظهر هذه الخلفية السيكولوجية متأخرة في مسار العرض الذي شارك بالتمثيل فيه محمد مرسي (في دور بافيل إيفانوفيتش)، وآية بدر (في دور الزوجة براسكوفيا)، إذ يستعين ياقوت بشاشة عرض، في خلفية الخشبة، ليسترجع جانباً من الطفولة المعذبة للجندي المرتعب. وصمم المخرج فضاء عرضه بحيث تبدو «حظيرة الخنازير»، الصورة الأبرز في منظور المتفرجين، وحرص على أن يحيل مكان العرض إلى الجغرافيا الروسية، خاصة عبر الملابس، كما وظف الإضاءة وظلالها، لإظهار وتحديد انتقالات الممثلين وتحولاتهما النفسية والعاطفية، إضافة إلى توظيفه لتقنيتي «السارد» ـ عبر شريط صوتي ـ و«الفيديو»، للإضاءة على جوانب من ماضي وحاضر بافيل. أحلام أبو سلامة.. البسيطة كما شهد الجمهور مسرحية «أحلام أبو سلامة» من تأليف وإخراج عماد الشنفري التي تميزت ببساطتها المبدعة والموحية، في مضمونها وشكلها؛ فهي تحكي عن رجل يعمل «فرّاشاً» بإحدى المؤسسات، وقد تقدمت به السن، وها هو ينتظر أن يرزق بطفل للمرة الأولى من زوجته البسيطة هي الأخرى وغير المتعلمة. الرجل الذي قدمه العرض كشخص يحفظ ما سمعه وقرأه من قصص التاريخ العربي برغم من أنه لم يكمل تعليمه، يريد لطفله القادم أن يكون بطلاً، يواصل سيرة ومسيرة أجداده الذين قاوموا المستعمر البرتغالي وتصدوا لترسانته العسكرية، بالفطنة قبل القوة. ومرر المخرج وقائع عرضه في لوحات أو انتقالات قصيرة، اتسمت بالفكاهة غالباً، ترواحت بين الماضي والحاضر، مستنداً إلى تقنيتي «السرد»، و«المسرح داخل مسرح»؛ فمن اللوحة الأولى إلى الأخيرة، وعبر الحوار بين الزوجين (الرجل وامرأته)، تعرفنا إلى حال المودة بينهما، وترقبهما لقدوم مولودهما، ثم منظورهما إلى أحوال الجيران من حولهما، فالأوضاع في المؤسسة التي يعمل بها الزوج، خاصة فساد بعض الموظفين، ثم التاريخ وصمود أهل الزوج في وجه المستعمر، إلخ، كانت هذه الانتقالات تتوالى تباعاً وعلى نحو سلس دائماً. بيدرو والنقيب: مسرح العنف أما العرض الأخير الذي قدمته الدورة الخامسة لمهرجان دبا الحصن للمسرح الثنائي فجاء تحت عنوان «بيدرو والنقيب» لفرقة مسرح نعم من فلسطين، ومن تأليف ماريو بنتديتي وإخراج إيهاب زاهدة؛ وهو تميز، إلى جانب شخصيته الإخراجية المحترفة، بأبعاد فلسفية مثيرة، إذ حاول عبر جلسة تحقيق تضم النقيب (رائد الشيوخي) والسجين (محمد الطيطي)، أن يستقصى جذور العنف لدى الإنسان؛ فما الذي يجعل أحدهم يستعذب عذاب الآخرين: مهنته أم جنسيته أم مشاعره، وهل نزعة العنف كامنة في أي شخص أم أنها مكتسبة؟ نقد الراهن العربي شوهدت خمسة عروض في الدورة الأخيرة للمهرجان، وقد تنوعت في موضوعاتها وأساليبها، ولكن بعضها تشابه في نقده الراهن العربي والاحتجاج على بعض ظواهره الاجتماعية والسياسية، على أن ما بدا واضحاً أكثر هو تركيز صنّاع العروض الخمسة على إبراز مهاراتهم الفنية في شغل فضاء الخشبة شبه الخالي، بحركة الممثلين وتنقلاتهما، وعبر الحلول الضوئية والصوتية، ومن خلال الفيديو، والرسم، والمرايا. وهذا الانشغال الملحوظ بهذه الجوانب التقنية كان يطمح غالباً إلى تجسيم وقائع العروض، المشروطة بحركة ممثلين اثنين، وتنويع مناخاتها بحيث يكتسي التقاطب الدرامي الثنائي (بين الممثل والممثل) زخماً تعددياً يغطي على فراغات الخشبة المحتملة أو يضفي عليها أبعاداً جمالية ودلالية تعزز المعنى الكلي للعمل.
مشاركة :