الصورة الثقافية المتنافرة والمشتتة التي صارت تتضح أكثر كل يوم في مجتمعنا تعيدني شخصياً إلى تساؤل قديم هو: هل لدينا مشروع ثقافي وطني أم أن هذا المشروع من المؤجلات الكثيرة التي لا نريد أن نواجهها ونتحدث عنها. فشل أو تعطل المشروع الثقافي ربما ساهم فيه وبشكل مباشر «التعليم» الذي استسلم بكل مؤسساته لرؤية واحدة قاصرة تغذي الكراهية ولا تعي قيمة المواطنة الحقة. لقد كان تعليماً غير متوازن ولم يستطع أن يتعامل مع سنوات التحول المادي كما أنه لم يفهم وسائل الاتصال المعاصرة ولم يوظفها بشكل سليم بالنسبة لي وأنا، مهتم بالتنمية، أزعم أن لدينا مشروعات وقضايا تنموية، نتحدث عن الإسكان وعن الصحة وعن الصناعة وحتى عن التعليم، وإن كنا نجرد من التعليم القيمة الثقافية ونركز على الكم لا الكيف ونهمل التأثير، نتناول مباني المدارس والجامعات وقليلاً ما نتحدث عما يحدث في الفصل وقاعات المحاضرات، يهمنا موضوع الوظائف لكننا نهمل المبادئ والقيم. المشروع الثقافي بشكل عام يأتي في المرتبة الثالثة أو الرابعة بعد مشروعات كثيرة، بينما في حقيقة الأمر ما نعانيه اليوم من مشاكل وقضايا مجتمعية وأمنية هو نتيجة إهمال هذا المشروع المهم والحيوي الذي يبني العقول. من الواضح أننا ركزنا على "البطون" وأهملنا "العقول" صرنا نهتم بكل ما يمس الحياة المادية وأهملنا تكوين البشر وبرمجة عقولهم على المواطنة وعلى القيم والمبادئ العامة التي تحفظ الحقوق وتصنع الأمن المجتمعي. أعتقد أن الفجوة الزمنية/المادية التي نقلتنا من مجتمع بسيط عصامي يرتكز على مبادئ تاريخية يؤمن بها كل أفراد المجتمع تقريباً إلى مجتمع مادي مشتت المبادئ هي التي صنعت المكون الإرهابي الذي نعاني منه الآن. هذه الفجوة لم تبعدنا عن بعضنا البعض فقط بل أوجدت الأسباب والمبررات التي تجعل فئة منا تكره الأخرى وتتمنى لها الزوال. أنا هنا لا أفاضل بين الاهتمام بالتنمية مقابل الاهتمام بالثقافة لكني أرى أن المكتسبات المادية لا يمكن المحافظة عليها دون وجود قاعدة ثقافية يشترك فيها جميع أفراد المجتمع. كل المكتسبات المادية قد نفقدها في لحظة إذا لم يكن المجتمع متجانساً ثقافياً، فمن يحمي التنمية سوى أبناء الواطن، فإذا لم يكن هناك مشروع ثقافي يوحد الجميع، حتى لو كانت آراؤهم ومذاهبهم وطوائفهم مختلفة، فلن تكون التنمية المادية مجدية على المدى الطويل. أنا شخصياً أرى أن كثيراً من المتاعب التي نعاني منها في الوقت الراهن جذورها ثقافية وليست مادية، حتى التعثر في المشروعات والفساد المادي لهما أسبابهما الثقافية التي تجعل من قيمة المواطنة ضعيفة جداً وتضخم الأنا. الأعراض التي تنتج عن فشل المشروع الثقافي في أي مجتمع تبدأ من تفسخ العلاقة بين الأفراد فتغيب الروابط والمبادئ والقيم المشتركة فيصبح من السهل التفرق والتشتت والاقتتال، وهذه الظاهرة عندما تطغى يكون هناك عوامل كثيرة مزمنة ساهمت في صنعها وبالتالي علاجها لن يكون أمنياً فقط بل يجب أن يكون ثقافياً بالدرجة الأولى. ما حدث في الدالوة والقديح والدمام وأماكن كثيرة هو تعبير مباشر لفشل مشروعنا الثقافي، فكل مجتمع لابد أن يرتكز على مبادئ "الاختلاف"، ونظم التعليم والحوار والإعلام يجب أن تغذي هذه المبادئ وتحولها إلى أمر طبيعي مستساغ يتعايش معه الناس. الواقع أنه في العقود الماضية أن الثقافة والفكر كلها تولد من رأي ورحم واحد. الاختلاف مرفوض والتعليم بكل مناهجه يكرس الطريق الواحد، فأصبح كل اختلاف "جريمة"، وهذا في حد ذاته جعل من المختلف منبوذاً وصار البعض يخفي هويته ورأيه وكأنه مذنب. هذه الأجواء التي شحنت فيها أدمغة أجيال من الشباب بأن الآخر المختلف هو عدو جعل من بيئة الكراهية في مجتمعنا خصبة وقابلة للتشكل وأن تتحول من مجرد الموقف المخالف المسالم إلى العمل الحركي الإرهابي الذي صار يوجه لكل المجتمع بكل مكوناته وأطيافه. فشل أو تعطل المشروع الثقافي ربما ساهم فيه وبشكل مباشر "التعليم" الذي استسلم بكل مؤسساته لرؤية واحدة قاصرة تغذي الكراهية ولا تعي قيمة المواطنة الحقة. لقد كان تعليماً غير متوازن ولم يستطع أن يتعامل مع سنوات التحول المادي كما أنه لم يفهم وسائل الاتصال المعاصرة ولم يوظفها بشكل سليم. الخلل تركز في مفهوم المجتمع المتنوع المتعايش، فهذه الصورة لم تكن واضحة، بل كانت التعاليم تقود إلى "إما معي أو ضدي" وبالتالي فقد تشكل إيمان لدى البعض أن من يخالفهم في الرأي لا يستحق أن يكون موجوداً، الأمر الذي جعل من العمل المسلح سهلاً لديهم. لقد كان القتل أمراً عظيماً في مجتمعنا تهتز له أركان البيوت، وعندما كنا نسمع أن أحداً ما فجر نفسه في فلسطين نشعر بالأسى والحزن علما بأنه يفجر نفسه لقتل عدو مغتصب ومحتل فكيف بربكم أصبح العمل الانتحاري أمراً مستساغاً في مساجدنا ومن أبناء جلدتنا. الخلل الذي حدث لم يكن مفاجئاً بل هو نتيجة لتراكمات قديمة وعديدة لفشل ثقافي متواصل أوصلنا لهذه المرحلة الحرجة والخطرة. كثير من المهتمين يضعون التنمية كحل لانتشال المجتمعات التي يستشري فيها الإرهاب الداخلي الذي عادة ما ينتج عن تفتت المجتمع من الداخل، وفي اعتقادي أن هذا الحل ليس مجدياً في كل الأحوال لأنه بحاجة أولاً إلى بناء الجبهة الداخلية قبل عملية التنمية نفسها. الأمر يحتاج إلى ما يشبه المصالحة الوطنية أو "التعاقد" المجتمعي الذي يحدد الحقوق والواجبات، فالجميع يعيش على أرض واحدة ويرتبط بحكومة واحدة ويتشارك في موارد ويواجه نفس المصير وهذا أمر يستدعي أن يكون "العقد الاجتماعي" مبنياً على مشروع ثقافي واضح يشرع التنمية ويجعل منها أمراً يساهم فيه الجميع بشكل إيجابي. وأخيراً أعتقد أننا بحاجة أن نستدرك ما فات فالفرص الإيجابية أمامنا كبيرة ومفتوحة وأرى أن ظواهر الإرهاب العرضية التي نعاني منها في الوقت الراهن ستكون من التاريخ في المستقبل إذا ما عدنا إلى مكوننا الداخلي المتعدد واتفقنا على أنه مكون أصيل وأن الوطن يجمعنا بلا استثناء وأن هذا التنوع يثرينا، فالمكان يتسع للجميع والكل يستطيع أن يعيش بسلام ويعبر عن رؤيته في الحدود التي لا تمس أمن الوطن. لو استطعنا أن نخطو هذه الخطوة ونبني مبادئ مجتمعية ترتكز على الاختلاف والتنوع والعيش بسلام سوف يكون للتنمية تأثيرها الكبير والعميق علينا جميعاً وعلى أبنائنا في المستقبل. لمراسلة الكاتب: malnaim@alriyadh.net
مشاركة :