يدهشني مدى ما يتمتع به الناس من اعتداد بالنفس وثقة في كونهم أخيارا لا يخطئون، فكل تصرف سيئ يقوم به أحدهم، يحيله لظرف خارجي ما، معتبرا نفسه نقي السريرة أبيض القلب لا ذنب له في كل ما ارتكبه.. حتى أعتى المجرمين يمتلك ما يبرر به تصرفاته ويقنع بها نفسه.. من المعروف أن أغلب الناس يعجزون عن رؤية تصرفاتهم الخاطئة لأنهم لا يرون الواقع إلا من منظورهم هم.. لكن الجديد في الأمر أن الناس أحيانا يدركون الخطأ، يعرفون أنه خطأ، لكنهم يمنحون أنفسهم «رخصة أخلاقية» تتيح لهم ارتكابه.. والمشكلة أن هذا خلل إدراكي شائع للغاية وكلنا عرضة له بشكل من الأشكال.. كيف ذلك؟ قام باحثون ألمان بدراسة مثيرة للغاية.. أتوا بـ 200 شخص، وعرضوا عليهم سلسلة من الاختيارات، مثل شراء سلعة صديقة للبيئة أو سلعة عادية، تم تصنيعها في بيئة عمل جيدة أو غير جيدة، ومدى استعدادهم للتبرع بعد ذلك لمخيم لاجئين، وبأي قدر بالضبط… إلخ، وكان الهدف من ذلك هو معرفة تأثير قراراتنا الأخلاقية الصعبة، على خياراتنا المستقبلية! وجدت هذه الدراسة المنشورة مؤخراً في دورية بلوس وان، شيئاً مثيراً للاهتمام.. وهو أن الشخص الذي يتخذ خياراً أخلاقياً في البداية، (مثل شراء المنتج العضوي)، يصبح بعد ذلك أكثر تساهلاً في خياراته الأخلاقية التالية دون أن يلاحظ.. فيتبرع -مثلاً- بمبلغ أقل للاجئين.. يفسر الباحثون ذلك بأن القرار الأخلاقي الأول أراح ضميره، وجعله يشعر أنه إنسان أفضل، فوجد أنه لا يحتاج لبذل مجهود إضافي ليثبت لنفسه ذلك.. وكأن اكتفاءً أخلاقياً حدث له حين قام بالتصرف الأول، فأراح عضلته الأخلاقية عند القرار الثاني.. أو أن التصرف الأول أعطاه الشعور بامتلاك رخصة أخلاقية، تبرر له أي تصرف لاحق أقل أخلاقية! يذكرنا هذا بمفارقات طريفة، مثل اللص الذي يصلي ويتوكل على الله قبل الذهاب لسرقته.. أو الشخص المتشدد في الشعائر، لكنه قاسي القلب سليط اللسان غليظ التعامل مع الناس.. هؤلاء أشخاص يعتبرون أنفسهم رائعين، لمجرد أنهم فعلوا شيئاً أراح ضميرهم، بما يكفي لتخدير الشعور بوخز الضمير عند ارتكاب أشياء يعتبرونها أقل أهمية.. متناسين أن التصرف الخاطئ يظل خاطئاً، بغض النظر عن شعورك بمدى تفوقك الأخلاقي.. لأن نظرتك لنفسك ليست معياراً أخلاقياً، بل تصرفاتك وأفعالك تجاه الآخرين هي المعيار الحقيقي! باختصار.. احذر الآثار الجانبية لفعل الخير.. تجنب الشعور بالتفوق الأخلاقي على الآخرين، وتوهم امتلاك رخصة أخلاقية، تجعلك -دون أن تدري- أسوأ منهم جميعاً!
مشاركة :