تُعد السيرة الهلالية بحلقاتها الثلاث: الريادة والتغريبة وديوان الأيتام السيرة الشعبيّة الأكثر انتشاراً في الوطن العربي؛ إذ تمتد دائرة السَّرد الهلالي لتشمل المنطقة الواقعة من العراق شرقًا إلى المغرب غربًا ومن سوريا شمالاً إلى جنوب الجزيرة العربيّة والسودان جنوبًا. وقد وجد الباحثون قصصًا عن الهلالية لا تزال تتردد في مناطق بغرب نيجيريا وحول بحيرة تشاد وبلهجات اللغة العربيّة هناك. ولا تزال مرويات السيرة الشعبيّة الهلالية تُروى وتُنشد بوصفها أنموذجًا للأدب الشعبي الجمعي، وبسبب هذه الأهمية الثقافيّة الاستثنائيّة الفائقة سُجِّلت هذه السيرة في منظمة اليونسكو في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية في عام 2008م. والسيرة الهلالية هي السيرة الشعبيّة الوحيدة التي انتهت إلى الهزيمة والتشتت مخالفة بذلك نسق السير الشعبيّة العربيّة التي تحتفي بالبطولة والانتصار، وتصدر هذه السيرة عن نواة تاريخية حقيقية هي سيرة حلفٍ من القبائل العربيّة النجدية وهجرتهم إلى المغرب العربي، وقد تشكّل هذا الحلف من قبائل قيسية عدنانية، وهي: زغبة ورياح والأثبج وقرّة أبناء هلال بن عامر، من وسط نجد. إنَّ أقدم مصدر مكتوب أرَّخ السيرة الهلالية هو ابن خَلدون (ت:808 هـ/ 1405م) ثم انقطع ذكرها في المصادر العربيّة المكتوبة إلى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي مع ظهور نخبة من الدراسات الفولكلورية الاستشراقية التي سلطت الأضواء على السير الشعبيّة العربيّة، ومنها السيرة الهلالية في نطاق قضايا التأثير والتأثر بين الآداب العربيّة والآداب الأوروبيّة. ويخالف تاريخ السيرة الهلالية المتخيّل الصورة التي رسَّخها بعض المؤرخين ومنهم ابن الأثير عن تنقلاتهم وتغريبتهم وإحلالهم الخراب في البلاد والعباد فالريادة تؤسّس للجماعة الهلالية نسبًا أسطورياً يصلهم بالأوس بن تغلب جدهم الأكبر المزعوم. وعلى الرغم من كون نصوص السيرة الهلالية قد حظي باعتراف التاريخ الرسمي لكون متنها ((corpus يشكل أحداثًا تاريخية عاشتها القبيلة الهلالية إلا أنَّ نص السيرة القابل للإدماج والإضافة والتحوير ينتمي في كثير من مواضعه إلى الأدب العجائبي بما في ذلك الجغرافيا المتخيلة التي تخالف الجغرافيا الحقيقية. كما أنَّ النسق الثقافي الذي تصدر عنه السيرة الهلالية هو نسق الجماعة، وتبرز البطولة الجماعية في تغريبة بني هلال إذ ينعقد لواء البطولة في هذه التغريبة للجماعة الهلالية التي يمثلها كل من أبي زيد ودياب بن غانم ومرعي والجازية وغيرهم، وهم يرتبطون بهذه الجماعة التي تؤطّر حركتهم في المكان. لقد كانت السيرة الهلالية مجالاً لاختلاقات سردية كبرى أنشأها الرواة المتماهون معها عبر قرون؛ فالغجر في بعض رواياتهم يزعمون أنَّ أبازيد الهلالي جدهم الأكبر، وأنَّه كان المنشد الأول لهذه السيرة كما يذكر المستعرب الإيطالي جيوفاني كانوفا. وتذكر بريجيت كونللي Bridget Connelly أنَّ تماهي الرواة والمتلقين مع سيرة بني هلال ومع أبي زيد الهلالي خاصة يبرز في بعض مناطق السودان وغانا وتشاد؛ إذ يطيل الراوي الوقوف عند ولادة أبي زيد الهلالي ولونه الأسود وما واجهه من إقصاء القبيلة ونبذها. اعتنى عالم الفولكلور العربي عبدالحميد يونس بالسيرة الهلالية، وأفرد لها كتابًا مهمًا هو (الهلالية في التاريخ والأدب الشعبي). كما اعتنى كلّ من عبدالرحمن قيقه من تونس والشاعر المصري عبدالرحمن الأبنودي بتجميع مروياتها المتناثرة من ألسنة بعض رواتها الذين كانوا لا يزالون على قيّد الحياة. ولا تزال السيرة الهلالية سيرة جاذبة للقراءة والبحث والاستقصاء مع ضخامة متونها وقابلية مروياتها للتأويل والإضافة حتى بعد قرون طويلة من هجرة هذه القبائل الهلالية النجدية. إنَّ السيرة الهلالية من السير الشعبيّة العربيّة التي لا تزال تراثًا حاضرًا بعمق في الذاكرة في وجود تلك السلالات الرمزية المتماهية مع الذاكرة الجمعية، وهذه السيرة الشعبية العربيّة بالذات تحتاج إلى قراءة متعمِّقة وفاحصة لاستكشاف رؤية العالم عند الجماعة التي أنشأتها. { أستاذة السَّرديات والنقد الأدبيّ الحديث المشارك، كلية الآداب، جامعة البحرين.
مشاركة :