سـرديـات: سرديات الغجر الشعبية الكبرى.. لعنة «الشتات» والترحُّل!

  • 2/3/2019
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

أسّس مشروع «كلمة» الإماراتيّ للترجمة مبادرة ثقافية رائدة هي نادي «كلمة للقراءة»؛ حيث يقوم هذا النادي باستضافة نخبة ثقافية مختصة بين وقت وآخر لمناقشة بعض إصدارات المجموعة. ولقد كنتُ سعيدة جدًا باستضافتي في منارة السعديات بأبوظبي الأسبوع الماضي مع مجموعة استثنائية لمناقشة أحدث إصدارات المشروع، وهو كتاب «حكايات غجر إسبانيا الشعبية»، تحرير وتقديم خابيّر آسينسيو غارثيا، ترجمة عبدالهادي سعدون. وقد ضمت مجموعة القراءة الأساتذة: سعيد حمدان الطنيجي وصالح كرامة ولولوة المنصوريّ وإيمان اليوسف ومحسن سليمان. بدأت الجلسة النقاشية بعرض لرقصة الفلامنكو التي ارتبطت بالمجموعة الإثنية «الغجر» رغم وجود إشكاليات تاريخية عدة حول تاريخ الرقصة وتحولاتها ومن هم منشئوها الحقيقيون (ثمّة آراء ترجعها إلى مزيج مختلط الثقافة الموريسكية والثقافة الإسبانية المحلية). تتميز هذه الرقصة بالإيقاعات العنيفة جدًا التي يعبر من خلالها الغجر عن الغضب المكبوت في داخلهم نتيجة الاضطهاد والتهميش الذي حلّ بهم. تؤسِّس الجماعات مروياتها السردية الكبرى المغايرة لسرد الجماعات البشرية الأخرى لها، وهي تجد جذورها في السرد وعندما تفقد السرد فإنَّها تفقد جذورها فتعيش حالة من «الشتات الرمزيّ». ويقوم سرد الجماعات المهمشة لذواتها على عمليات «اختلاق» و«تلفيق» و«تحبيك» سرديّ للتحايل على أصولها وجذورها الحقيقية باختلاق «تواريخ» بديلة يتمّ تقمصها والانتساب إليها. وما يعزّز هذه السرديات «الجليلة» الكبرى لهذه الجماعات المهمشة الحكايات والملاحم البطولية والأساطير التي تمنح هذه الجماعات قوة رمزية عليا «تتعالى» بواسطتها على مرجعياتها الحقيقية «الدنيا» والهامشية. في كتاب «حكايات غجر إسبانيا الشعبيّة» ثمّة نسقان ثقافيان ظاهران ومخبوءان في الوقت نفسه؛ نسق الثبات الذي يرسخ أنساق المركزية السردية الأوروبية وخاصة الإسبانية في السرد الملحميّ البطولي مثل حكايات «برناردو ديل كاربيو وابن برناردو المنحوس وفرسان فرنسا الاثني عشر والعملاق وأنريكه المنشد وحصان توتانا النحيف وتحدي الجمجمة». وفي هذا النسق ثمّة رغبة في التماهي مع الآخر الإسباني «القروسطيّ» وخاصة في عدائه للآخر «العربيّ=المورو»، وهنا تأتي بعض الحكايات المشحونة بدلالات رمزية عميقة مثل «في جبين العربيّ يكمن الكنز». وفي هذه الحكايات ثمّة النسق الثقافيّ الآخر الذي يؤرخ سرديًا ذاكرة «الشتات الغجري» حيثُ اللعنة التي حلّت على الغجر وستلاحقهم في سلالاتهم المختلفة والممتدة وفي شتاتهم حول العالم. ففي حكاية «لطخات القمر» يخلف الغجريّ الجد الأكبر الوعد الذي تعهّد به للقمر في عدم قطع أشجار الغابات. يقول السارد الغجريّ: «إذا ما حدَّقت جيدًا في القمر سترى وجهًا غجريًا وآخر لطفل صغير هو ابنه (...) ابتلعه القمر مع ابنه الصغير الذي كان يرافقه. ومنذ ذلك الحين وهما محبوسان في القمر، وإذا أمعنت النظر إلى القمر في الليل، سترى كليهما. لهذا السبب لن يعلو شأن الغجر، فجدنا هذا أُتيحت له الفرصة ولم يعرف كيف يستغلها. لذلك فإنَّنا نحن أبناء ذلك الغجريّ مازلنا نجر خلفنا عِقاب القمر». وفي حكاية «ستأكلون ولكن لن تعملوا» ساعد الغجر السيد المسيح عندما صعد درب الآلام وعلى كتفه الصليب. «تقول الحكاية» عندما صعد المسيح درب الآلام وعلى كتفه الصليب. راح يطلب الماء ولم يمن عليه أحد بشربه. وعلى هضبة كانت تقف مجموعة من الغجر، ولما سمعوا المسيح يتألم راحوا بسرعة بحثًا عن الماء وقدموه له. ارتاح يسوع وتوقف لشرب الماء، وللتعبير عن امتنانه للمسة الإنسانية التي تعاملوا بها معه، قال لهم: أنتم أيها الغجر، لتحل عليكم بركاتي. ستأكلون ولكنكم لن تعملوا. وذريتكم ستأكل ولن تعمل أبدًا». أبارك لمشروع «كلمة» الإماراتيّ للترجمة ترجمة هذا الإصدار الاستثنائيّ، والتفاتها الدائم إلى حقول الثقافات والآداب الشعبيّة (غير النخبوية). ولاشكَّ أنَّ هذه المتخيلات الشعبيّة العالميّة للجماعات الإنسانيّة على اختلافها تتوافر على قدر كبير وعميق للمتخيّل الإنسانيّ يختزل نظرة الإنسان ورؤيته إلى الكون من حوله في تلك السرديات الرمزية الكبرى. أستاذة السرديات والنقد الأدبيّ الحديث المساعد، كلية الآداب، جامعة البحرين.

مشاركة :