< اليوم وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على انطلاق السجال حول الحداثة في المشهد الثقافي السعودي، ما الذي يتبقى من ذلك السجال؟ وهل أفضى إلى توضيح مفهوم الحداثة وترسيخ حضورها في المعترك الأدبي؟ من أغرب النزاعات الفكرية حول الحداثة، تلك التي شهدتها الساحة الفكرية المحلية، ولا يعرف هل الحراك الثقافي المحلي حول الحداثة نستطيع أن نطلق عليه (حراكاً)؟ وهل خدم المتلقي وأضاء له الطريق لمعرفة حقيقة الحداثة أو أنه زاده غموضاً وغرابة؟ أحد أكثر الأطراف المتأزمة ضد الحداثة، المفكر عوض القرني، الذي مارس في العقود الأخيرة دور محمد الغزالي ضد الفلسفة الإسلامية، وكلنا نعرف الأدوار التي لعبها الغزالي لتأليب قلوب الناس ضد الفلسفة، وهناك من ادعى بأن الغزالي أصاب الفلسفة في مقتل بتأليفه كتابه الشهير «تهافت الفلاسفة». عوض القرني (غزالي القرن العشرين) أراد ومن خلال كتابه الشهير «الحداثة في ميزان الإسلام» أن يلعب أدوار الغزالي نفسها، مع الفوارق بينهما، فالغزالي كان ينقد الفلسفة من معرفة ودراية وكان يخاطب الفلاسفة بلسانهم وبثقافتهم، بعكس القرني الذي لا يعرف عن الحداثة سوى أنها مذهب فكري نشأ في الغرب، هدفه الأوحد هو تدمير هويتنا عن طريق أبواق الحداثة من العرب كما يقول، فأراد أن يحظى بشرف السوبرمان القادم لقتل الحداثة، فكانت ركاكة الكتاب وجهل المؤلف بحقيقة الحداثة واضحة للعيان. وأنا هنا لا أنصِّب نفسي محامياً عن الحداثة ولن أكيل لها المديح، بقدر ما أرغب في نقل صورة أوضح عن هذه النمط الحضاري الشامل، الذي تشكل وتمدد في فترة تقارب خمسة قرون، مع ما يتخللها من أحداث تاريخية كبرى، شكلت العلامات البارزة لمسيرة حضارية جارفة ومرحلة من عمر البشرية شكلت الأفق المنظور للعالم الحديث في مستوياته كافة. فهذه المرحلة التاريخية، قد حصرها القرني في مجال الأدب والقصيدة الغامضة، وجعل من بودلير المؤسس الأول لها، نافياً وجود أي أصل عربي للحضارة الأوروبية متمثلة في الحداثة، وكل من استشهد بهم الحداثيون العرب من الأصل العربي هم مجرد «فسقة» بحسب تعبيره. كان الكتاب خالياً من أي معلومة تكشف الستار عن حقيقة الحداثة باستثناء ذكر أسماء مجموعة من الحداثيين (بحسب تعبيره) الذين وجه لهم القرني أقسى الشتائم والألقاب والتصنيفات؛ في محاولة لتأليب الرأي العام ضدهم، فمع ركاكة الكتاب وضعف صياغته، وابتعاده عن جوهر الحداثة، فقد خلا أيضاً من النقد العقلاني والموضوعي. لا يعلم القرني بأن الحداثة ذات الأصل الغربي، على حد قوله، قد كان لها جذور عربية، وأن الحضارة الأوروبية لم تكتفِ بذاتها، بل اقتبست الكثير من العلماء والفلاسفة العرب من النواحي العلمية والإبداعية، فلا أظن بأن القرني يعلم بأن الحداثة ليست أدبية فقط، بل كانت علمية وعقلانية وسياسية واجتماعية، فقد خلا الكتاب تقريباً من أي ذكر، لرائد الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت الذي سعى لتأسيس رؤية جديدة للعالم والأشياء، انطلاقاً من معايير عقلية مجردة، وهو مبتكر ما يعرف بالشك المنهجي (الكوجيتو)، ولا ينكر القرني بأن هناك حالة مشابهة للشك المنهجي في التراث العربي، تبرهن ريادة العرب والمسلمين، وما عليه إلا الاطلاع على كتاب الحيوان للجاحظ في موضوع بعنوان «دعوة إلى انتهاج منهج الشك»، فهذه العقلانية الأوروبية التي وضع حجر الأساس لها ديكارت، كان لها أصل عربي، كان للجاحظ وتلميذه أبو حيان التوحيدي الكثير من المساهمات العظيمة فيها. وهناك أيضاً مدرسة غربية يطلق عليها (الرشدية) متخصصة ومهتمة بتعليقات وشروحات ابن رشد لفلسفة أرسطو، وفيها قال جورج سارتون: (إن تأثير ابن رشد على فلاسفة أوروبا أقوى من تأثير أرسطو نفسه)، فابن رشد هو مبتدع المذهب العقلاني المهم المعروف باسم (الفكر الحر)، فهل يضاف ابن رشد لقائمة الفاسقين الذين ذكرهم القرني في كتابه؟ وعلى كل حال لن يتسع الحديث لسرد أثر بقية العلماء في الحضارة الغربية مثل المعري والخوارزمي وابن سيناء والفارابي والكندي. ومن الناحية السياسية لا يزال التاريخ يشهد بأن الخليفة العباسي المأمون قد أسس دولته على العقل، وفتح الآفاق للعلماء والمترجمين في سبيل تحقيق حلمه المنشود، ولا أظن بأن الحضارة العلمية العريقة التي صنعها العرب والمسلمين كانت قائمة على طغمة من الفاسقين. لم نجد في كتاب القرني أي ذكر لإيمانويل كانط، صاحب السؤال الحاسم: ما التنوير؟ وقد قال عنه هيدجر بأنه مؤسس الحداثة الفلسفية، ويرى فيه ميشيل فوكو بأنه «عتبة الحداثة»، ولم يناقش أي فكرة من أفكار كتابه الشهير (نقد العقل المحض). كان كتاب القرني خالياً من أي ذكر لمقولات هيغل ونظرياته المطروحة في كتابه الضخم «ظاهريات الروح»، إذ وظف مفهوم «العصور الحديثة» بشكل مميز، ويعتبر هيغل من أهم فلاسفة الحداثة ولم تحصل للحداثة الوعي الذاتي إلا معه (كما يقول هابرماس)، ومن العسير تطويق معنى الحداثة وضبط كل مكوناتها من خلال اقتباس قصيدة للبياتي أو مقولة لأدونيس أو قصيدة ذات معنى غامض، وطرحها وكأنها إدانة صريحة لمرحلة كونية شاملة ذات سلوك تفكيكي عنيف، تتحرك مثل الزئبق داخل المجتمع، لا تستمد قوتها عن طريق قصيدة غامضة لشاعر حداثي، بل تستمد فعلها التدميري من طريق الموضة والإعلام وعبر التوسع الاقتصادي أو الاحتلال الاستعماري ونهب خيرات الشعوب، يحركها عقل أداتي لا يرضخ لأي أحكام مسبقة أو مرجعيات متجاوزة، يدور في زمن متسارع الأحداث يختل فيه التوازن بين الماضي والمستقبل، زمن لم يعد يستمد معياريته وقيمه من عصور السلف، فإذا لم يكن هناك حضارة مضادة أو نهوض عقلاني شامل، فأعتقد بأن كل أساليب الممانعة التقليدية والانزواء على الذات والتأليب البائس سيكون مصيره الاصطدام بتيار التقدم الجارف، وهو ما يعني المزيد من التبعية والتقهقر والرجعية. كان للمفكر المغربي الإسلامي طه عبدالرحمن كتاباً رائعاً، يحمل عنوان: «روح الحداثة» وينقد فيه الحداثة والحداثيين بشكل مغاير وأسلوب منهجي وموضوعي، كرس فيه مشروعه لتأسيس حداثة إسلامية نابعة من الأصول، وطرح وجهة نظره المضادة للحداثة والحداثيين، لم يكن فيه ذكر لأفراد، ولم يحوِ على شتائم أو تصنيفات مقيتة، ومن يطالع الكتاب يلحظ فهماً عميقاً للحداثة وسيرورتها، وإيصال عميق لمحتواها، ومع وجود شتى التوجهات الفكرية عند المفكرين المغاربة، لكننا لم نجد طه عبدالرحمن يذكرهم بكلمة نابية أو يصنفهم تصنيف إقصائي، فلا عجب أن غادرت الريادة الفكرية والثقافية من مقرها القديم (مصر) وتحولت لوجهتها الجديدة (المغرب). وفي الطرف المضاد، الخصم التاريخي للقرني، المفكر عبدالله الغذامي، المفكر الذي كتب سيرة ذاتية تحكي قصته ما بين بريطانيا والسعودية، فصارت سيرته الذاتية رديفاً لحكاية الحداثة في السعودية. فقد تمخض عن الحداثة الغربية مذهباً يدعى (الإنسانوية)، أسست لبناء ملكوت الإنسان الفرد، ناصبة إياه معياراً لكل شيء، بينما وجدنا في كتاب حكاية الحداثة بأن الغذامي نصب نفسه معياراً للحداثة المحلية ومركزاً لها، ولم يتردد الغذامي في طرح أطراف حديثه مع زملائه في بريطانيا وهم في حالة نقاش محموم حول أسعار العقار المرتفعة بفعل الطفرة، كحدث تاريخي يعبر عن الحداثة. وزاد عليه أن طرح أحاديثه الخاصة مع صديقه يوسف الكويليت لتبيان الفوارق النسقية بين الإنسان الساكن في حي الملز وبين الساكن في منطقة دخنة، ونقل كثيراً من الحكايات الطريفة عن النقلات النوعية التي عاشها في مدينة الرياض، ما بين معاركه الفكرية مع مليباري، وهجرة البدوي من الريف إلى المدينة، ومشروع إنشاء الهجر لتوطين البدو، والعادة الشعبية المتبعة في تسمية الأبناء بأسماء الأجداد، وهجرة الموظفون من الحجاز لنجد وتعايشهم مع النجديين مع الفوارق النسقية بينهما، ولم ينسَّ الغذامي أن يحكي لنا القصة الدرامية لانضمامه لجامعة الرياض، ووصف مدينة الرياض ما قبل بعثته لبريطانيا وما بعدها، وفي نهاية الكتاب أرفق صورة قديمة لحوار صحافي له في صحيفة رياضية، ويحمل الحوار مانشيت يعلن الغذامي بأنه اتحادي صميم، ومكتوب على الصورة -بخط اليد- قارئ غاضب يلوم الصحيفة على استضافة شخص يصنف ضمن قائمة العلمانيين وناشري الإلحاد. حكايات طريفة ومسلية أقرب ما تكون للأراجيز التي يحكيها الآباء على أطفالهم والتي تبدأ بالاستهلال الشهير (سنة من السنين) ويتبعها في الغالب بحكايات عجائبية تحكي قصص خوارقية عن صراع الإنسان مع الذئب وتنتهي بانتصار الإنسان على الذئب في النهاية، وحملت حكايات الغذامي عنوان «التجديد الواعي» وهو التعريف الذي أطلقه على الحداثة بكل بساطة. وأقرب نموذج لهذا الكتاب (مع فارق الأسلوب والحبكة) هو كتاب الأديب العربي الكبير عبدالرحمن منيف «عمان في الأربعينات.. سيرة مدينة» الذي وصف فيها منيف مدينة عمان الأردنية أجمل توصيف وكأنك تعيش وسط أهاليها وبين أزقتها وشوارعها، ولكن عبدالرحمن منيف لم يدعِّ بأن كتابه هو قصة الحداثة في الأردن، فكان كتاب منيف كما هي الحال مع كتاب الغذامي، أقرب للوثيقة الأنثروبولوجية التي تصف حياة الشعوب ومعتقداتها وتحولاتها الخارجية، ولكنها لا تصف الحداثة وتغلغلها (اللاواعي) في بنية المجتمع.
مشاركة :