وقد برز ضمن تيارات الغناء والتلحين العربيين في القرن العشرين تيار إعادة إنتاج الغناء الشعبي من مصادره العدة سواء في البيئات الريفية أو الصحرواية أو الساحلية، والطبقات السفلية من مجتمعات المدن مثل المهاجرين من الريف أو الصحراء والطوائف المهنية والأقليات العرقية. ويعتني البحث إلى إسهام جلي في تجربة كل من مبدعين عرب من الملحنين مثل الأخوين رحباني وبليغ حمدي وغنام الديكان في إعادة إنتاج الثقافة الشعبية في نماذج جديدة. وهو ما كان بين مصدرين: الأول هو التراث (الفلكلور) والموروث (العامي أو الشعبي). بعض تلك الأعمال كما ألفتنا للملا عثمان الموصلي وأبو خليل القباني وعبدالله الفرج ومحمد عثمان. حيث تشكل أعمال كل منهم سواء الغنائية أو الإنشادية ذاكرة الثقافة الشعبية، وهي ذاكرة العوام التي تثير أكثر من مسألة حول اللغة والطبقة والذاكرة في أي مجتمع. تمثل الثقافة الشعبية خزانة حضارية ومكنزاً تراثياً لأي شعب. وبما أن ذاكرة العوام تتصل بالمجتمع العربي فإن أحد الباحثين لخص مفهوم العامة من مدونات التاريخ الاجتماعي بقوله: "هم سواد الناس الذين لم يكونوا يتمتعون بأي سلطة، والذين كانوا يعملون في شتى حقول الكسب، وأنهم كانوا يعيشون في عالم خاص له أبعاده الفكرية والدينية التي تتدنى عن مستوى عالم الخاصة" (فهمي، 1993، 140). وحدد العامة بأنهم ثلاث فئات أساسية: الرقيق، وأهل الذمة، وسائر أصناف الكسبة. لكن سنلجأ لملاحظة دقيقة من أحد مثقفي ذلك العصر، وهو الجاحظ (775-869)، الذي أسس لمفاهيم اللغة والبلاغة والكتابة، وحدد آليات الثقافة الشعبية في كتابه "البيان والتبيين". وهو قد قدم في كتابه هذا تعريف "العوام" بوصفهم منتجين ومتفاعلين مع "الثقافة الشعبية" سواء كان التراث أو الموروث. ويصفهم بقوله: "وأما العوامّ من أهل ملّتنا ودعوتنا، ولغتنا وأدبنا وأخلاقنا، فالطّبقة التي عقولها وأخلاقها فوق تلك الأمم ولم يبلغوا منزلة الخاصة منّا، على أن الخاصة تتفاضل في طبقات أيضاً" (الجاحظ، 1998،137). وأخرج منهم الفلاحين (أهل الريف)، والصناع والباعة (الطوائف المهنية)، وذكر الأقليات العرقية غير المندمجة بعد هجراتها وشكلت منغلقات اجتماعية وثقافية داخل المدن (الأكراد والفرس والزنج والهنود..).
مشاركة :