أثَّرت جائحة فايروس كورونا «كوفيد19» على جميع مناحي الحياة حول العالم، خاصة على الاقتصاد ومؤسسات الأعمال، والله وحده يعلم متى سينتهي هذا الكابوس ويعود الاقتصاد للتعافي وتعود حياتنا لطبيعتها. وبدأ القادة والمسؤولون حول العالم، في القطاعين الحكومي والخاص، باتخاذ قرارات وإجراءات تقلل من الأثر السلبي لهذا الفايروس وتحد من انتشاره، ومعظم -إن لم يكن جميع- تلك القرارات استثنائية ومؤلمة، بما فيها إغلاق الحدود وفرض الحظر والتباعد الاجتماعي وصرف مساعدات عاجلة للفئات الأكثر تضررًا إضافة إلى ترشيد إنفاق وإغلاق فروع وتسريح موظفين. ولا بد في هذا الصدد من الإشادة بما اتخذته مملكة البحرين من مبادرات في إطار توجيهات جلالة الملك وقرارات سمو ولي العهد، بما في ذلك حزمة الدعم المقدرة بـ 4.3 مليار دينار، وقرارات تحمل رواتب الموظفين البحرينيين في القطاع الخاص واشتراكات الكهرباء وتأجيل أقساط البنوك، إضافة إلى مبادرات القطاع الأهلي مثل حملة «متكاتفين.. لأجل سلامة البحرين». لكني اعتقد، بل أدعو في ظل هذه الظروف الاستثنائية، إلى تعديل قانون العمل في القطاع الأهلي رقم 36 لعام 2012 أو تعليق العمل به على الأقل، بهدف منح أصحاب الأعمال المرونة اللازمة في التعامل مع الموظفين، وضمان ثبات مؤسسات القطاع الخاص في وجه التحديات المستجدة، فليس من الحِكمة إجبار أصحاب الأعمال على عدم اتخاذ أية إجراءات استثنائية بحق الموظفين في هذه الظروف الصعبة، لأن هذا سيُفاقم المشكلة بدل أن يحلها، فالقضايا في المحاكم العمالية ستزداد، وعدد المؤسسات المتعثرة سيرتفع، ولن يكون من السهل إعادة مؤسسة إلى السوق بعد خروجها منه. يجب أن نعرف جمعيًا أنه ليس من مصلحة صاحب العمل الاستغناء عن موظفيه، خاصة الأكفاء منهم، بعدما استثمر في تدريبهم وتعليمهم، وتأكد من ولائهم وعطائهم ومستوى انتاجيتهم، لذلك اعتقد أن فصل أي موظف هو أصعب قرار يأخذه صاحب العمل، والسهم الأخير في جعبته. لكن يجب أن نعرف أيضًا أن التاجر والمستثمر ليس جشعًا طماعًا شريرًا قادمًا من كوكب آخر، فكما يبذل الموظف كل جهده من أجل الحفاظ على وظيفيته والحصول على ترقية وراتب أعلى ومزايا وظيفية أكبر، يبذل التاجر كل جهده من أجل الحفاظ على شركته وتنمية أرباحها وفعل كل ما يلزم من أجل ذلك. لم أولد وفي فمي ملعقة من ذهب، وأدرك تمامًا معنى أن يفقد شخصًا ما عمله ومصدر رزقه ولقمة أطفاله، لذلك أفكر مرات ومرات قبل إنهاء عقد الموظف غير المُنتج، فما بالكم بالموظف المنتج؟. لكن على الطرف الآخر من مسؤوليتي أيضا الحفاظ على الشركة ووقايتها من الإفلاس، وضمان عدم خروجها من السوق. إنها معادلة صعبة تتطلب إحداث توازن دقيق بين مصلحة الشركة من جهة والموظفين من جهة أخرى. لذلك عندما تمر شركاتنا في ظروف صعبة نبحث دائما عن حلول وسط تضمن أن نتحمل جميعًا -كلٌ بحسب استطاعته- الآثار السلبية للقرارات الصعبة التي لا مناص من اتخاذها، وهذه القرارات تكون غالبا متدرجة، تبدأ بالطلب من الموظفين زيادة الإنتاجية والتفكير بمشاريع تضمن مصادر تمويل جديدة للشركة، مرورًا بإلزام الموظفين بأخذ إجازات مدفوعة، ثم إجازات غير مدفوعة، والعمل عن بعد براتب أقل، إلى تخفيض الرواتب بنسب متفاوتة بحيث يحظى ذوو الرواتب الأقل بخفض أقل، وإذا طالت الأزمة ولم تجدِ كل تلك القرارات والإجراءات نفعها يتم اتخاذ قرارات بإنهاء خدمة الموظفين الذين يمكن الاستغناء عنهم. في الإمارات العربية المتحدة أصدرت وزارة الموارد البشرية والتوطين مؤخرًا قرارًا بشأن استقرار العمالة بمنشآت القطاع الخاص في ظل تفشي فايروس كورونا، ينص القرار على التوافق بين صاحب العمل والعامل غير المواطن المصرح له بالعمل في المنشأة، وذلك للمحافظة على مصلحة الطرفين خلال فترة تطبيق الإجراءات الاحترازية للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد، وسمح القرار للمنشآت بالإجراءات الاحترازية من فايروس كورونا والتي ترغب في إعادة تنظيم العمل لديها، أن تتدرج فيما تقوم به من إجراءات بالاتفاق مع العامل غير المواطن من خلال تطبيق نظام العمل عن بعد، ومنحه إجازة مدفوعة الأجر، ومنحه إجازة بدون أجر، وخفض أجره بشكل مؤقت خلال الفترة المشار إليها، وخفض أجره بشكل دائم. لننظر إلى ما قامت به شركة إعمار، أكبر شركة عقارية مدرجة في الإمارات، فقد خفّضت رواتب موظفيها بما يتراوح بين 30 و50%، في ظل أزمة كورونا التي أثرت على عائدات الشركات في البلاد، وتضمن القرار، تخفيض راتب رئيس مجلس الإدارة محمد العبار بنسبة 100%، وموظفي الإدارات العليا بنسبة 50%، وموظفي الإدارات المتوسطة بنسبة 40%، وصغار الموظفين بنسبة 30%. الخطر الأكبر الآن على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في البحرين، والتي نعول عليها في تنويع مصادر الدخل وتوليد فرص العمل ودعم الناتج المحلي الإجمالي. معظم هذه المؤسسات الآن، مثل المطاعم والمقاهي ومراكز طب الأسنان ومراكز التدريب، فقدت جزءًا كبيرًا من زبائنها أو توقفت عن العمل كليًا، وغالبًا ما تعاني من مشاكل مالية ومشاكل سيولة ربما لا يعرف بها أصحابها، لذلك يجب توجيه دعم خاص لتلك المؤسسات، دعم مادي وإرشادي، وفي التعامل مع موظفيها أيضا. فهل من المعقول ألا نعطي مرونة معقولة لمؤسسة بحرينية في التعامل مع موظفيها بينما نحن نشاهد أندية أوروبية عريقة مثل برشلونة وإنتر ميلان وفيورنتينا تخفض رواتب لاعبيها وموظفيها، وشركات عملاقة مثل آبل وطيران الاتحاد تغلق مكاتب وتسرِّح موظفين حول العالم؟!. تتطلب إدارة الأزمات بنجاح أن يتحلى القائد أو المسؤول بصفات أساسية من بينها الجرأة والمرونة والقدرة على المواجهة، وفهم أنه لا يمكن حل المشاكل الاستثنائية الطارئة بنفس الأساليب المستخدمة في الظروف العادية، وهذه المشكلة تبرز أكثر في أنظمة الحكم الجامدة. يقول صموئيل هنتغتون في كتابه «صراع الحضارات» إن أسوأ الأنظمة هي الأنظمة البيروقراطية، وأسوأ ما في النظام البيروقراطي وجود مسؤولين مخلصين للبيروقراطية يحرصون كل الحرص على الإبقاء عليها وتطبيقها بحذافيرها. *رئيس مجلس إدارة مجموعة بروموسِفِن القابضة
مشاركة :