ننشر فصلا من رواية كُنا يومًا للكاتبة نهلة عبد السلام

  • 4/13/2020
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

تنشر "البوابة نيوز" فصلا من رواية "كنا يومًا" للكاتبة نهلة عبد السلام والصادرة عن دار "المثقف" للنشر والتوزيع" (2)مهما نزهر بألوان متباينة يظل ارتباطنا بالجذر ما يبقينا أحياء.. إن قطعناه؛ انتهينا، وإن وصلناه؛ أينعنا، الجذر الجزء الخفيُّ والسحري.. الفعل اللا إرادي، والغير مبرَّر غالبًا، "ليلى" بعينَيها الزرقاوَين الواسعتين.. ووجه مستدير كالبدر.. بشرة بلون سنابل القمح.. وشَعر بنيٍّ كثمرات تمر طابت، ما أن طالتها مخرطة البنات، وبرز هذا وذاك، والتفَّ العود حتى ضُرب عليها الحصار، حتى أبناء عمومتها ممن شبَّت معهم لم يكن من الجائز أن يلمحوا طرْف جلبابها، يبدو أن المخرطة تأتي أيضًا على روؤس الرجال؛ فلا تميز قريبًا كان أو غريبًا، حتى من يترددن عليها من البنات يخضعن للفحص والتمحيص.. لذا أسمت "سناء" عناء؛ فما إن تعودها حتى تتنمَّر عليها جدتها لأيام - والمصحف دي بت سايبة لو من أهلها كنت قِدْت بيها الفُرن- ليه يا ستي؟ دا سناء طيبة قوي، بس تحب الفرفشة- تحب المرقعة، دية مرقعة مش فرفشة.. إيه اللي عملاه في وشها ده؟ وعملاه لمين؟ وأمها اتخبطت في نافوخها! دي لو سِت كانت جابتها تحت رِجْلها وماخلِّتش حِتَّة سليمة في جِتِّتها- وهو الخَطِّين اللي ربنا خلقهم فِـ وِشِّنا يستاهلوا دا كله؟- اه يستاهلوا، تقرَّبيلهم؛ تبقي وقيد دخنة وراحت لحالها، تفوتيهم؛ تبقي رغيف يستاهل بُقّ الجدع - يعني يا تاكُلنا النار.. يا ياكُلنا الجدع- لا.. آكلك أنا قلمين ان مابطَّلتيش تناطحي ستك لَاجل ما تقفي لبنت زيّ دي- البنت دي قريبتنا؛ مِنِّنا يعني- ما البطن قلاَّبة؛ ساعة رَواقة وساعة عكارة.. وسناء دي عكارةْ العكارةحتى والدة "سناء" لم تكن لتنصفها، فكلما عادتهم لتشارك نسوة الدار في صنع "الكسكسي" في ليال كُنَّ يهبن فيها الذبح لأهل الله طلبًا للرحمة للأموات والبركة للأحياء، تتأمل نخالة الدقيق وقد وُزعت ما بين ناعم بالمرة الأولى، ينعتونه بالنازل، وخشن بالثانية، ينعتونه بالمانع، وهو ما يُخلط بماء ليصير عجينة ليِّنَة تعمل على سد الفراغ بين الطنجرة الحاوية للمياه، بحيث يكون مستواها أدنى من المصفاة، التى تعلوها وترتكز عليها، وقد لُف الدقيق المفروك بطريقة خاصة داخل قماشة قطنية ناصعة البياض، وهكذا يعمل البخار على إنضاج الحُبيبات، تسترسل في شرح فلسفتها المستلَهمة من الصنعة؛ لتسقطها على ابنتها، والتى ما تفتأ تذكرها، حتى تقرن اسمها بجُملة متفرِّدة "اللي طلَّعت النجيلة الخضرا في عنينا"؛ كناية عما تسومهم من عذاب- بالك يا عَمَّة نعمات؛ البنات زَيّهم زَيّ النخالة دي، منهم الهوينة الخفيفة على أهلها، كيف النازل نرُشَّها لَاجل ما تيسّر خبزة الرغيف.. خير ويملا الدار، ويجلب من ليه مقدار، ومنهم المعقربة التقيلة؛ كيف المانع، ما منهاش إلا السَّدَّة والقَفلة.. شَرّ وآخرتها سِكِّينة نحِزّ بواقيها، وتترمي ماحدِّش يشِمّ لها ريحة لَاجل ما يشتهيها- واحنا كنا حزناه إلا بعد ما نولناه.. ولا الكسكسى مماليش عينك يا ولية - عيني اتقلعت يا عَمَّة من حزن المزغودة سناء.. لو كان يجيلها اللي يزيحها ويريَّحنا منها، ادعيلها يا عمة، ونَدْرٍ عليَّ افرُك شوالين، واوزَّع كسكسي بمرَقته بلحمته ع الناحية وكأن الزواج تهذيب وإصلاح، لا مودة ورحمة، فما يُغلب أهل مع بناتهن حتى يهبوهن لأول طارق.. وليفعل بها ما شاء، مادام يحمل وثيقة خطَّها مأذون بوكالة والد، أو ما عادَل، حال غيابه، واثنين شهود."فوزية" تربطها علاقة دم بجدة "ليلى"، ولكنها تنتمي للفرع الفقير، حيث لا طين يتوارثونه، ولولا تواضع جمال ابنتها لما خطر ببالها فكرة تعليمها، فالشهادة قد تمنحها زيجة لائقة، خاصة وإنها ومنذ صغرها تلازم ابنة الأكابر، كلَّفها ذلك شقاء طيلة النهار، وذهاب وإياب سواء للأسواق أو لبيوت المعارف والأقارب والأصهار، طحنت وخبزت ما بين فطير ورقاق وقُرَص محشوة بالعجوة.. تلك التي تحفظها بموسمها، فتستخدمها على مدى العام.. علفت الخراف والجديان، وسمَّنت البط والإوز والدجاج، تكلَّفت عناء بيع اللبن للموسرات، ذوات الأكف اللينة.. بالطبع لديهن البهائم، يحتَجن لمثلها تحلب، فتترك لهن ما يكفيهن، أما الباقي فتتكفل بنقله لماكينة اللبن، تحمل الإناء المعدنيَّ وهو ما يسمُّونه "القسط" والذي يتسع لنحو عشرين لترًا على رأسها.. فقط يفصلها عنه قماشة لُفت بشكل دائري، وهو ما يسمُّونه "لوَّايَة"، بعد فصله ما بين منزوع الدسم وكاملة، تعيد ابتياع ما يلزمها؛ فتضرب الجبن على حصيرة وتخزِّنه في آنية الفخار.. تخُضُّ اللبن بقِرْبته؛ فتصنع زُبْدًا على هيئة كُرَيَّات، تبيع أغلب منتجها، فلا تبقِي سوى القليل منه، تقدِّمه في عشاء الخميس من كل أسبوع.. حين يتوسط برام الأرز الطبلية الخشبية المُزدانة برسومات ملوَّنة، تطل منه قِطع اللحم الشهي، وقد تعلَّقت به العيون، وجرى الريق من طِيْب رائحته، تضحك وترفع حاجبها بمَكر وهي تقول "أُمَّال.. ما طباخ السِّم بيدوقه.. ولا هيبقى مالنا ولا يهنالنا" ومن ثم ينقض الجمع في عملية إبادة لحظية وخاطفة لكل ما أنفقت فيه يومها كي تعِدَّه، يوم حصل "سالم" على دبلوم الزراعة، ورغم ضيق ذات اليد لم تترك دارًا إلا ونالت من أطباق الأرز باللبن، والمُشهود لها بالجدارة والصدارة في صُنعه، حتى أنها تختال بنفسها حين يغمرها إطراء الأكيلة "قطع ايد اللي تقول عمَلِت رُزّ فوزية" ومن ثم تستجديه الدعاء لـ "سناء" بأن ييسر الله لها الحصول على الشهادة العليا والعريس في آن، اندهش الحاج "كمال" والد "ليلى" من طموحها للفتاة، رغم إنها لم تَسْعَ بالأساس لالتحاق ولدها بالثانوي العام، فيتأهَّل لاستكمال دراسته بالجامعة، ومن المسلَّم به لديهم أن كل طَيِّب أولى به الذكور.. عمَد لسؤالها عن السبب دون مناورات؛ فكان رَدُّها المشبع بفلسفتها الخاصة والتي اكتسبتها من السَّيْر بالدنيا حتى تشقَّق كعباها، وتصلَّبت أظافر قدميها- يا حاج الرجل ما يعيبوش شكل، وعلى رأي المثل "إن كان عيبه من فمُّه شَنَبه يلِمُّه وإن كان عيبه من منخاره رجل وملو مقداره"، حتى جيبه ما يعيبوش "المليان يكب ع الفاضي" ولا حتى شهادته "في الفاعل يشيل مادام كتفه شديد".. الرجل رجل يقعد ويشاور كيف مَكَنِة اللبن يتكَب عليه من أيُّتها ضرْع يفرز ما يتقالوش لا، أما بقى البنت بتِنْفِرز و"اللي ياخدوه للزبدة مش زي اللي ياخدوه للقريش.. سناء لا مال ولا جمال؛ يبقى الشهادة اللي هتعمِلَّها قيمة.. نشقى شوية بس أما نزوّحها ما تردِّش علينا تاني وشايله وجَارَّة، وبُقَاق تاني نلقِّمها أفحمته "فوزية"، هو الذي يطالع الصحف اليومية، وتسكن مكتبته كتب المفكِّرين والأدباء والسياسين، يعجز حيال بُعد نظرها وعُمق فلسفتها.. تلجمه وتعقد لسانه؛ فيعاف التمادي في حوار لن يأتيَ عليه سوى بمزيد من أعاجيب الأفكار.يطالبها "أحمد"، برغم كونه نهَلَ من نفس المَعين، بأن تأمن لشابَين يعيشان بمفردهما بلا رقيب أو حسيب، بل واعتبارهما مسئولية يتشارك فيها جل الجيران، هذا ما حث عليه دين السماء، لا دين الآباء، الذين يعاملاهما كمجرمَين هاربَين من العدالة، بعد ما هتكا واغتصبا، على اعتبارهما من سلالة الذئاب وآكلي أعراض بنات حواء.. يطالبها بأن تأمن وهي مَن شَبَّت على أن لكلٍّ معسكره، والمتجاوز الخط الفاصل مفقود، حتى يوم ارتضى والدها أن تكمل دراستها الجامعية لم يتجرَّأ على الخروج عن النَصِّ؛ فوجد ضالته في كلية البنات، رغم حصولها على مجموع يتيح لها العديد من الاختيارات، أما والنقاش معه لا يفيد؛ فالرجال وكما خبرت من جدتها "نعمات" خلق لهم الله قلوبًا ملحقًا بها أجهزة تبريد، تعمل على مدى أربع وعشرين ساعة.. فبينما تحترق امرأته، يحرق هو الدخان في لا مبالاة، تركته لدِينه، أما هي فإخلاصها لما لُقِّنت شبَّع خلاياها، وما من سبيل للفكاك منه.افتقر حديثها العابر معهما للود، وتعامُلها المحدود لللُطف.. ترد تحيتهم باقتضاب، وبالطبع لا تبدأهم السلام أبدًا، لم يحدث أن دعتهم تحت أيِّ ظرف لدخول بيتها، حتى يوم خرجت ونسيت مفتاحها موضوعًا بالباب من الداخل، وتصادف نزول "مهاب" والذي تطوَّع بإحضار نجَّار وإنهاء المشكلة، كانت تفضِّل الجلوس لدى إحدى جاراتها لحين عودة "أحمد" على أن يسديها أحدهما خدمة، يومها راجعتها "رضوى" بِكْريتها بشأن معاملتها الجافة لهما مقارنة بجارتهم "كوثر"، والتي دعتهم لحفل ميلاد ابنها "زياد"، وجارتهم "بهيرة" وهي من شهدتها ترسل لهم بصنعة يدها من تشكيلة حلوى العيد، وكأنها فتحت البوابات لسيل من مُرِّ الكلام - كوثر وعندها ولد، وبهيرة وبنتها مخطوبة، يعني مشغولة، إنما أنا بلوتين؛ إنتِ واللي يطلب هيلاقى الخط فاضي، وأختك عَيِّلة طايشه، كفاية بتقول لكريمة أستغفر الله العظيم طنط.. أعمل إيه؟ خلفتي بنات، يعني الهم للممات.. لا وكمان يحط عليَّ شحطين، كنت ناقصاهم! ربنا يزيحهم ويريَّحني منهم - اسمحيلي يا ماما كدا العيب مش في مدحت ومهاب، دا يبقى فينا احنا.. معقول أي حد هينسِّينى اللي اتربِّيت عليه سنين.. أو أختي اللي يادوب اتناشر سنة؛ مشروع منحرِفة مثلًا لمجرد انها بتقول طنط لست بعُمر أمها، قَدّ كدا مش واثقة فينا خالص، يعني لو رَفعتِ عنا المراقبة؛ هنعمل ما بدالنا، واللي أكيد كله غلط في غلط.. ما تعذبيش نفسك يا ماما بجَوّ أفلام المراهقات على أين عمرى.. لا أنا: ندى، ولا صبا: عليَّة علشان أصلًا مفيش رشدي أباظة، علشان يبقى في عادل، ولا باشا علشان يبقى عمو عزيز لم ترُقْها تبريرات ابنتها؛ عَدَّتْها لغوًا يليق بمن نشأت بمعزل عن دستور لا يجيز استثناء، ولا يعترف بمتغيرات.. يؤمن بإمكانية تقليم الفروع.. إخضاعها للتنسيق.. إعمال آلات القص واالتهذيب كي تتناسب وهواه، أما الجذور فممنوع اقتراب المعاول؛ وإلا هَلَكَ الجميع، وأضحى وجبة لنيران لا تُبقي ولا تذَر.

مشاركة :