ننشر فصلا من رواية تحت الطبع للكاتبة منى العساسي

  • 5/7/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

اختصت الكاتبة منى العساسي، "البوابة نيوز"، بنشر فصل من رواية "ليالى الهدنة"، وهي رواية تحت الطبع ويحمل الفصل عنوان "مطارحات الألم". مطارحات الألم "البداية "في الصباح استيقظت متوهجة ممتلئة بالحياة كعادتها، متوجسة جميلة ومبهجة وضعت عدساتها اللاصقة الزرقاء لتستبين الرؤيا أمامها، فكت خصلات شعرها السوداء الناعمة، ووقفت أمام مرآتها تتأمل بياض نصلها،ثم اختارت ملابس أنيقة وحذاء مريحا، ووضعت عطرا من مزيج الأزهار الخفيف والذي يطغى عليه في النهاية رائحة أزهار التفاح، وانطلقت إلى موعدها، تشق خطاها غبار ا رماديا كسا الأفق الناعس،.تاركة خلفها طفلها في حضن السرير، ما زال أسير أنفاس غفوته،انطلقت تاركة إياه مع سيدة في أواخر الأربعينيات،نحيفة سمراء تشعر في وجهها بؤسا غير معهود، استدعتها إلى المنزل على عجل لتجالس طفلها حتى تعود بالمساء، وبعد مكالمة هاتفية طويلة ترثي فيها بؤس حالها ومدى حاجتها للمال أتت السيدة، ولم يكن خافيا عليها إنها تهدف بكل هذه الثرثرة المعهودة إلى أجر مضاعف..هي تعلم ضيق الحال جيدا وتعلم كم أصبحت الحياة غالية،وكانت سوف تعطيها أكثر مما تنشد دون شكوى، أو استجداء لشفقتها أو عطفها رغم حاجتها الماسة للمال بعد انفصالها الحديث..لكن جليسة الأطفال الثرثارة، لم تشأ أن تتركها قبل مضي نصف ساعة من الثرثرة التي لا تملك لها الوقت على الهاتف والتي ستنهيها كالعادة بجملتها المعهودة:الله كريم يادادة لا تتأخري غدا يجب أن أخرج باكرا حتى ألحق بالقطار ولا تقلقي سأعطيك ما تريديه وأكثر وأنهت المكالمة قبل أن تبدأ الدادة في وصلة طويلة من الدعاء لها ستفقد خلالها نصف ساعة أخرى من وقتها الضيق، والتي يعلم الله إن كانت صادقة في دعائها أم هو فقط على سبيل النفاق..نزلت بعد أن ألقت نظرة أخيرة على نفسها تتفقدها بدقة وتزرع في نفسها الثقة، انطلقت باتجاه الشارع مسرعة إلى التاكسي الذي كانت قد حجزت معه موعدا منذ ليلة البارحة..قلبها كان يرجف،ينتابها شيء من الخوف، من التوجس،جلست مسافة نصف ساعة من الصمت،،مسافة نصف ساعة من الخوف الفطري تجاه المجهول، مسافة نصف ساعة من السقوط في الذكريات الميلودرامية التي تمر بها منذ بدأ الأمر، مسافة نصف ساعة من الشجار مع من كان زوجها قبل بضعة أيام، هذا النموذج الغاضب دائما، المعاتب دائما، المعارض لكل طموح أو خطوة واحدة تحاول أن تخطوها خارج بيته، خارج سجنه،،خارج امتداد ذراعية،خارج سلطته، خارج عباءة عجزها،،خارج رداء عوزها وحاجتها المادية الملحة إليه، هي المسافة من بيتها إلى محطة القطار..خرجت مغامرة هاربة إلى عالم خارجي، لم تطلع عليه سابقا على الإطلاق، مؤملة نفسها بالنجاح، راسمة في ذهنها خطة موسعة لمواجهة قبح هذا المجتمع ودناءته، ومحاولة إيجاد حل لمشكلاتها المادية.. طرأ في ذهنها هاجس مباغت بمحاولة التواصل مع طليقها أن تحتال عليه لتجد سبيلا للتصالح معه لتتخلص من كل تلك الأعباء التي أنصبت عليها فجأة من حيث لا تدري..مشردة تماما لا تعرف هل أحزنها أم أسعدها أنها تذكرت فجأة أنها استنفدت كل طاقتها على الاحتيال، لم تعد لديها أدنى رغبة في عيش كل هذا الزيف،لم تعد لديها رغبة في التمثيل ولا في أن تحيا كلاعبة أكروبات، ترقص فوق الحبال طيلة الوقت، وتخشى السقوط أيضا، في الوقت نفسه، حتى لو فعلت ذلك ملايين المرات، حتى لو نجحت في كل مرة، يبقي داخلها خوف دفين في أنها ستسقط من فوق الحبل المشدود ذات مرة ،، هي واثقة من هذا، ولم تأتي تلك القناعة من فراغ أو من باب توقع الأسوأ، إنما لأنها ببساطة توقن أن البيوت والعلاقات الزوجية السوية لا تبني على الحبال المعلقة، ولا على التربص وتصيد الأخطاء، ولا على الزيف والاحتيال حتى تنال الرضا لذي لم تنله أبدا مهما فعلت، مهما رضخت أو تخلت خلال خمس عشرة سنة، فهي دائما كانت مقصرة وملامة..انهالت على رأسها المدفون تحت الوشاح الأزرق..كل ذكرياتها البائسة، خريف علاقتها الزوجية الذي لم يبخل عليها بكامل نزقه وتقلباته، كم مرة تشاجرت بلا سبب يستدعي الشجار، كم مرة استغلها بمنتهي التبجح ،كم مرة ابتذلها وقهرها، وتطاول عليها وقتل طموحها، كم مرة نوت خيرا وقابلها بلا مبالاة وغضب ولعن وسباب..استجمعت في ذاكرتها كل حدث سييء كبيرا كان أو صغيرا لتمنح نفسها عذرا مقبولا بألا تنظر خلفها بعد الآن، أن تمضي دون تراجع، أن تبعد عن رأسها هذا الهاجس إلى الأبد. وحدها في مواجهة خوفها الواضح والمتخفي، وعليها أن تتحصن بنفسها خلف القشرة الانيقة الواثقة التي أتقنت لبس ردائها، لن يهزمها اليوم، هي تؤمن أن الخطوة الأولى وسط هذه الأحراش هي الخطوة الأصعب على الإطلاق ،هزيمة الخوف لمرة واحدة بخوف أكثر شجاعة منه، سيجعلها تهزمه عشرات، بل مئات، بل ملايين، لكنه لن يستأصله من داخلها بالطبع.وقفت أمام موظف شباك التذاكر الذي نظر إليها من تحت نظارته السميكة وهي تقول:تذكرة مكيف القاهرة لو سمحت.. أجابها بعد نظرة متفحصة طويلة لمظهرها الأنيق: لقد أتيت متأخرة يا دكتورة، وأخذ يدقق النظر في حاسوبه لعله يجد لها مقعدا شاغرا في محطة قادمة أو سابقة..- لا يهم كانت ستدفع على كل حال - بعد دقيقة أو دقيقتين وجد لها تذكرة، ،ألتقطها من هذا التجويف الدائري في الزجاج، ووضعت له ثمنها متنازلة له عن الجنيهات الأربعة المتبقية، بما أنها لا تملك جنيها مستقلا، بدورة تقبلها الموظف بصدر رحب.قطعت تذكرة القطار وجلست على المقهى الخارجي بالرصيف ساقطة في شرودها في مجازفتها، في خوفها.. هذه المرة هي تخاف الفشل، تخاف أن تكون قد جازفت بكل شيء لأجل لا شيء، أن تكون قد وضعت مستقبلها ومستقبل طفلها على المحك بلا جدوى... كانت تقف وجها لوجها أمام سؤال يجعل حلقها يجف: ماذا لو فشلت..؟ فمن يضمن لها أنها ستنجح، من يضمن لها أنها مؤهلة لهذا العمل..هي بحاجة لضمانة حقيقية حتى تستطيع الوقوف في وجه الجميع، إن لم تنجح ستعيش العمر انكسارا، ستحيا مرارة الفشل في كل نظرة توجهها لها عيونه،.وعيونهم المتنمرة، ستشعر بمرارة الموت في كل غمزة، في كل التفاتة في كل همسة، هي تعلمهم جيدا، وتدرك مدى كرههم لنجاح أي شخص سوى ذواتهم، تدرك كرههم لنجاح الجميع في الوصول إلى أي شيء، ولن يضيع مجتمعها البائس الفرصة في صب جام سخريته ولومه وغضبة عليها في كل لحظة، لن يكف أبدا عن معاقبتها..جلست ملتحفة شرودها حتى أتاها ذاك النادل ببنطاله المشمر عن ساقية وقميصة الرث وأسنانه الصفراء وأنفاسه الكريهة، وشبشب بأصبع واحدة معلنا عن قدميه القبيحتين سائلا إياها عما تريد أن تشرب،موضحا لها بسخف أن الجلوس هنا غير متاح بدون مشاريب... أصيبت بالاشمئزاز منه والقرف منذ وقعت عينيها عليه للوهلة الاولى، لكن لا مفر، فالمحطة الفقيرة لا يوجد بها مكان آخر للجلوس وستضطر للوقوف إلى أن يأتي القطار التي اكتشفت لاحقا أنه يتجاهل هو الآخر بسخف المواعيد المحددة له فيتأخر مدة تصل إلى الساعة أحيانا..قررت طلب قهوة لم تكن لتتناولها أبدا لكنها ستؤمن لها الجلسة الوحيدة المتاحة حتى يأتي القطار...نظرت له في ثبات متجاهله اندفاع سائل الحمض المر بمريئها، وقالت قهوة مغلية على الريحة لو سمحت، ورغم يقينها أنها لن تشربها إلا إنها كانت محددة جدا في طلبها بأدق تفاصيله.فعلت ذلك متعمدة حتى تضيع على هذا النادل المقزز أي فرصة أن يفتح فمه أمامها مرة أخرى،،وتجعله يحمل طلبها في أذنيه ويرحل دون أن يتفوه بكلمة عن أي تفاصيل أخرى.حمل النادل طلبها ورحل، التقطت هاتفها من حقيبتها تتفقده، تحاول أن تجد طريقة تمرر بها الوقت غير الوقوف عارية أمام الحقيقة التي تبذل جهدها للتملص منها، من سخف فرضياتها حول الفشل وما سيئول إليه وضعها جراء ذلك أخذت تمرر عينيها فوق شاشة هاتفها تارة، وفي وجوه الواقفين انتظارا حولها، نوعية هجين من البشر تتواجد بينهم للمرة الاولى..تتأمل وجوههم،،ملابسهم ،،طريقة كلامهم ،، ضحكاتهم، رائحتهم، في المطلق كانت غريبة جدا على هذه الفئة من البشر مما جعلها هي الأخرى محط أنظارهم في كل شيء.لمحت أحدهم يحاول السلام على صديق له مقبلا إياه فدفعه الآخر بعيدا عنه، معلنا عن ذكورة مفتعلة، مضخما نبرة صوته، ورافعا إياها بشكل مبالغ فيه:أنا مش بتباس يا ابا لاحظت نظرة الدهشة وملامح الارتباك بوجه الآخر، همست في نفسها وهي ترمق صاحب الصوت الأجش باشمئزاز... أنت بالفعل شاذ أو متخلف..ها هو القطار أخيرا قد أتى، انطلقت باتجاهه، وهي تسأل نفسها للمرة الأخيرة: هل أنت واثقة مما تفعلينه؟لم يأتي من رأسها أي جواب مطلقا، فقط شعرت بأن أوان التراجع قد انتهى، وعليها أن تكون أهدأ وأكثر أيمانا وثقة بنفسها، وإلا لن تفلح في أقناع أحد بنفسها على الإطلاق..مررت نظراتها بين أرقام المقاعد باحثة عن مقعدها حتى وصلت إليه أخيرا..كان مقعدا لطيفا يتوسط العربة بجوار النافذة،شعرت بالتفاؤل والراحة إلى حد ما، لم تمر بضع دقائق حتى جلس بالكرسي المجاور لها رجل سمين قليلا بمنتصف الثلاثينيات من العمر يبدو علية نوع من الوقار، ،نظرت له متفحصة ثم أدارت نظرها إلى النافذة، ووضعت سماعات الهدفون بأذنها وذهبت مع صوت ماجدة الرومي إلى ذلك البيت الصغير بالقرية حيث نشأت، ذلك البيت الذي احتضنها منذ طفولتها الاولى والذي مؤخرا تحاول جاهدة استعادة حقها فيه، فالموروث الاجتماعي للقرية الذي لا تدري هي من أين استمد مبادئه يقول بأن الفتاة عندما توقع على عقد زواجها فهي توقع أيضا تنازلا ضمنيا عن مكانها في بيت أبيها ليصبح وجودها فيه بعد هذا العقد على سبيل الضيافة وليس الحق ،، الموروث النفعي ذاته الذي طالما أصدر أحكامه المجحفة متسلقا أكتاف الضعفاء ليسرقهم بحيلة لطيفه، مستغلا بذلك جهلهم وحاجاتهم وربما رغبتهم في الاستكشاف، فإن لم تفلح تلك الحيلة، يمكن الالتفاف عليهم من منظور ديني وهذا المنظور لم يخيب يوما، فالبسطاء الذين يعولون على السماء في تحقيق كل آمالهم ممررين بذلك مرارة عيشهم، ما إن ينطق لهم أحد بشيء باسم الله إلا وقهرا ستنحني جباههم وينصاعون لما يريد دون أدني تفكير أو تحقق..فتحت عينيها بشكل مباغت أثر شعور مفاجئ لشيء ما يحتك بساقها المجاورة للرجل السمين بالكرسي المجاور، فوجدت صاحب الكرسي يتعمد أن تلمس ساقه ساقها بشكل غير عفوي، مما دفعها إلى سحب ساقها سريعا بعيدا عنه، موجهة له نظرة حادة مستنكرة تصرفه الغريب، مما دفع الرجل للرد على نظرتها بنبرة حادة وصوت مرتفع محاولا تبرير فعله أنا آسف يافندم مخدتش بالي، أجابته بصمت واستنكار وهي لازالت تسدد نظرتها إليه، مما جعله يزيد من احتقانه وغضبه لينفجر بصوت لفت انتباه الجميع:أنا دكتور يافندم مش متحرش وضعت سماعات الهدفون في أذنها وحملت حقيبتها وتركت كرسيها مستبدلة التذكرة مع شاب بالكرسي الأمامي... أخذت نفسا عميقا، وصرخت في نفسها: إنها البداية يذكر أن مني العساسي هي قاصة وروائية مصرية صدر لها رواية نقش على خاصرة الياسمين، ورواية جبل التيه

مشاركة :