ننشر فصلا من رواية تحت الطبع للكاتبة إنجي همام

  • 5/4/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

اختصت الكاتبة إنجي همام، البوابة نيوز، بنشر فصل من روايتها الجديدة التي تستعد لإصدارها الفترة المقبلة تحت عنوان "أفلام الظهيرة".وفيما يلي تقرأ النص..الجميل ميمي صباح طيب يا عزيزي وصلت توا للفندق، الطريق لم يكن مزدحما من المطار حتى وسط المدينة، ببعض المفاوضات الصغيرة وصلت لاتفاق معقول مع سائق الليموزين، على الرغم من دفء الجو الذي كنت أشعره في الطائرة والمطار، كان الجو غائما باردا عندما خرجت للشارع، في الطريق لشارع الحمراء كانت الحياة زرقاء!، هكذا شعرت، تلك البرودة تذكرني بلوني المفضل، الأزرق، حالة صفاء وانتعاش واقتراب من سماء أو بحر باردين، سأبدل ثيابي وأنزل لجولة صغيرة، بالمدينة سأعاود الكتابة إليك في المساءمحبتي..ميمي عدت توا من الخارج، لن تصدق برودة الجو، في الأماكن المغلقة الجو دافيء، جلست بمقهى الأمل، بالقرب من الجامعة الأمريكية، حيث إلتقيت "ثناء صالح" هناك، احتسينا قهوة وسط وبعض الحلوى الشامية، أترك "ثناء" وأحاول ممارسة طقس السير الليلي، ما أجمل ذلك، التسكع ليلا وحيدة في مدينة لست أسكنها، توجهت لوسط المدينة التي يبتلعها شارع وحيد، شارع الحمراء، أشعر أني بشارع سليمان باشا، أو كما أصبح "طلعت حرب" أو بشارع قصر النيل، أعقد المقارنات الروحية، في وسط المدينة البيروتية أشعرني بوسط القاهرة، وفي عمان الأردنية شعرت بأني في حي الحسين القاهري، كم هي متشابهة مدننا، عندما ذهبت لعمان للمرة الأولى لم أشعر أني تركت القاهرة، نفس الروح، اللهم إلا إنها تنام مبكرا، كسائر بلاد العالم، لا تسهر سوى قاهرتنا، كم الكلمة موجعة، قاهرتنا!، كان لا بد أن أكون قاهرية ولو لهذا السبب فحسب، مدينة السهر والساهرين، تعلمت بعض المدن السهر ولكن من أجل التنزه والمتعة، أما القاهرة فيسهر كل أهلها تقريبا، المستمتعون والمعذبون في الأرض، القاهرة مدينة لا تتسع رغم اتساعها، لحياة واحدة، ففيها ألف شعب، شعوب لليل وأخرى للنهار، وشعوب متجولة على تخوم الأزمنة "الوقت"، أظنني منهم، فأعشق ليلها ونهارها، ويا ويلتي من منتصف يومها، ولكن أي يوم ؟، يوم شعب الليل أم شعب النهار، لدينا عشرات الذُرى الحركية في يوم تلك المدينة الأبدي، يومها المنفتح دوما في فضاء لا نهاية له، ستقوم قيامتنا ونحن نلهث، نلهث ونلهث لهاث عابث، ليس أعبث منه شيء، فهل هناك ضائعون أكثر منا؟، ماذا تجني شعوب القاهرة في ليلها ونهارها برغم عدم كفها عن اللهاث المتصل، ربما توجب علينا التوقف لنعقل ما نفعله، ولكن هيهات، لقد جبلنا على هذا، فأصبحنا نخاف التفكير، نخاف التوقف للحظات ربما لا نتمكن بعدها للعودة كما كنا، لاهثين حتى الموت، هكذا فعلت ذات يوم، توقفت عن كل شيء، وأخذت أبحث عن المعنى فلم أجده، ولم أعد كما كنت، هل نعود لحديث المدن؟ في تونس لم أتذكر القاهرة، تخطيط مختلف وطبيعة مغايرة، ولم أتذكر حتى الإسكندرية، تونس شأن أخر، وقعت في غرامها منذ الليلة الأولى،وهي من أكثر المدن التي تمنيت العيش فيها، تلك المدينة الخاطفة، أربع ساعات يجول بي التاكسي وصديقتي السورية "روعة الشاهد" كانت المرة الأولى لكليتنا في تونس، لم نكن نعرف شيء بها مطلقا، كنا عائدتين توا من سيدي بو سعيد، تلك البقعة الزرقاء الساحرة، كان يوما مشمسا رغم كوننا في الشتاء، تجولنا مليا بالمدينة، ومررنا بمنزل "بن على " الهارب، وإلتقطتنا الصور التذكارية مع البحيرة، وأنهينا الجولة بسيدي بوسعيد، زهور ومياه وبيوت أثرية، وتذكارات عديدة من الفخار والصدف والجلود، اشتريت يومها حقيبة صغيرة لها لون البنفسج الداكن، أسميتها فيما بعد حقيبة الميدان، كانت الأسهل والأخف على أكتافي المريضة، وأنا أتجول في ميدان التحرير، أضطر كثيرا للكر والفر أحيانا، والوقوف لساعات، كانت تكفي هاتفي المحمول، وبضع ورقات نقدية، ودفتر صغير بحجم راحة يدي وقلم رصاص، أها.. نسيت السائق، بعدما انتهينا من شراء التذكارات، "روعة" وأنا، قصدنا أول تاكسي وأعطيناه عنوان فندقنا بوسط المدينة، لو لم يكن الخوف، لاستمتعنا بهذه الجولة الطويلة الغير مقصودة، ظننا أننا خُطفنا، مضينا من شوارع عمومية طويلة، ممهدة ونظيفة، وطرق منحنية تطل على البحر، وأخرى تطل على زروع وأشجار وحدائق مختلفة، ظلت "روعة" تحادث أشخاص وهميين على هاتفها النقال، تخبرهم عما يحدث معنا، أما السائق فظل يتهمنا أننا لم نعطه العنوان السليم، كل ما كان يشغلني طيلة الرحلة المخيفة، و"روعة" والسائق يتشاجران، حزن كبير يخنق روحي، كيف لم أمت في ميدان التحرير وأموت هنا!، بعد حادثة اختطاف لم أفكر طويلا في تفاصيلها التي لم تكتمل بعد، حزن كبير على تلك الموتة التي لم أتمنى أروع منها، بعد تلك الساعات المرعبة، وجدنا أنفسنا أمام فندقنا، ولم نعرف لليوم، هل كان الرجل بالفعل لا يعرف الطريق، أم إنه ككثير من السائقين ابتغى مزيد من الأجر، لا يهم، المهم أن الفرصة لم تزل سانحة لموتتي المفضلة، في مساء نفس اليوم نزلت و"روعة" بصحبة بعض الأصدقاء الجزائريين، تناولنا في مطعم شعبي منفتح على الشارع، سمكة حارة وبعض المقبلات التونسية، وضحكنا طويلا على قصة الخطف المتخيلة، ليس لهذا وحده أسميتها المدينة الخاطفة، لكنها خطفت قلبي أيضا بمجرد خروجي من المطار، شوارع عريضة غير مزدحمة، مخططة جميعا بالأبيض والأزرق لوني الحبيب، كيف لا أقع في غرام مدينة زرقاء ؟ تدهشني علاقة الألوان بالمدن، أتعرف أن لكل مدينة ألوانها؟ مؤكد تعرف، لكني لم أكن أعرف حتى سافرت لأكثر من بلد، أسفارك أكثر مني بكثير، لا بد لاحظت ذلك من قبل، في بيروت يسيطر اللون الأحمر على ألوان النوافذ،ذلك الشيش الخشبي مطلي بالأحمر في شوارع بأكملها، في تونس والمغرب يسيطر الأزرق، لا أذكر اللون المميز في عمان، أما في القاهرة فقد كان الأخضر لون رسمي، فيما تبقى من الأبنية الأثرية القديمة التي تحتفظ ببعض بهائها، بالطبع أعيد طلاؤها به مرات ومرات، هذا قبل أن تصبح القاهرة مدينة رمادية، ليس كلون طلاء، بل كلون حياة، ذلك العادم الخارج من شكمانات السيارات المختلف أنواعها وأحجامها، صار لون رسمي للحياة القاهرية، انطبع على الأبنية العتيقة،متفاوتة الجمال متفاوتة القبح، انطبع على صدورنا المعتلة بداء الصدر القاهري، انطبع حتى على الوجوه الواجمة، بلا معنى يعبر عن دواخلها، وفيما عدا ذلك اللون، سيطرت ألوان الطيف جميعا، ليس على واجهات البيوت والمحال التجارية فقط، ما بالي أخذتك في جولة سياحية عربية الليلة، السفر، مبيتي بالفندق يزيد شهية الأرق، تجوالي النفسي بتلك المدن أصبح عادة كل سفرة، ها أنا شاركتك عادة جديدة، في الغد سيكون الفيلم.محبتي..إنجي همام، قاصة وروائية، صدر لها روايتان هما: موت الجدة مليكة، وبالقرب من الحياة.

مشاركة :