تنشر "البوابة نيوز" فصلا من رواية "الشيخ عجيب" للكاتبة أماني فهمى، الصادرة مؤخرا عن دار النسيم للنشر والتوزيع.الرواية تدور حول الفترة المقلقة التي أعقبت السبعينات مع انتشار الأفكار المتطرفة والإرهابية، حيث تتناول أثر تلك الأفكار مجتمعيًا إلى جانب دور المرأة الواعية في مقاومة تلك الأمراض الخطيرة، كما تستعرض التغيرات الاجتماعيه والثقافيه التي طرأت على المجتمع المصري حتى اللحظة الراهنة، عبر قصة حياة فوزية التي يعود والدها من الخارج ليصر على زواجها من صديقه عجيب المتورط مع تيارات متطرفة.إلى النص المقتطف من رواية "الشيخ عجيب":ظن الرجل أنه منزل من السماء كملاك مأمور بإهلاك البشرية التي لا تؤمن بالله كما يشاء هو للإيمان أن يكون، وعندما اعتلاه الحشيش تقمص دور الملاك المنتظر لأمر الله في إفناء الخلق باستثناء الصالحين منهم (كما شاء هو أيضًا للصلاح أن يكون)، وعاد بظهره للوراء، وهو يتخيل القاهرة تذوب في بركان من نار من صنعه هو، لكن بأمر الخالق.- هل تحرق الخلق؟تلفت حوله يبحث عن الطيف الذى يطرح السؤال ويختفى دائما، لم يجد أحدًا لكنه أجابه:- لو شاء الله أن لا أحرق الخلق، لجعل النار بردًا وسلامًا عليهم، كما فعل مع سيدنا إبراهيم.عاوده نفس الصوت يطرح سؤاله الثاني: ولم لا تقول بنفس المنطق؟! إنه لو شاء الله أن يحرق الخلق لأحرقهم هو، أو أغرقهم كما فعل بقوم نوح دون الحاجة لأي نوع من العون منك؟- هل تفكر أن تكون أنت هذا النوع من العون يا عجيب؟ - إذن أنت الملاك الذي لم يستطع الرب إرساله لعقاب الخلق، فقررت أنت أن يُرسلك الشيخ عزيز؟!كانت معرفته بالشيخ عزيز وسيلة عرف بها كيف يتحول البشر لملائكة تقوم بما لم يأمر الله ملائكته بفعله.كانت كلمات زوجته ابنة الشيخ عزيز تخرق أذنيه: هل يعجز الله أن ينتقم فتقوم أنت وأبي له بهذه المهمة؟ - من هذا الذي ترد على أسئلته ليل نهار ولا أراه، ولا أسمعه يا عجيب؟ يتعمد ألا يجيب سؤالها ويكتفي بترديد نفس الشيء: ألم تسمعي أبدا عن ملائكة العذاب يا فوزية؟تضحك كثيرا وهي تشير نحوه: أنت ملاك يا عجيب؟! يجوز. لكن حتى إن أردت أن تصبح ملاكا فلن تكون ملاك عذاب يا عجيب؟ سمعنا عن ملاك واحد فقط تحول إلى شيطان، ولم نسمع عن بشر تحولوا إلى ملائكة، لكن تذَّكر أن ذلك الملاك حين ثار على طبيعته الملائكية لم يتحول لشيء أفضل، ولم تسجد له ملائكة، تحول لشيطان، وهو يعيش الآن من أجل تحويل الخلق إلى شياطين مثله، لم نسمع بعد عن ملاك آخر يعمل على تحويلنا إلى ملائكة، هذه ليست وظيفة الملائكة يا عجيب!! لم تثور على طبيعتك يا عجيب؟!كان عجيب وعزيز قد أنذرا أهلهما بضرورة مغادرة القاهرة قبل طوفان نار أسوأ من طوفان الماء الذي أهلًك قوم سيدنا نوح، وصاح عزيز: إن الله سوف يتحرك.وذهلت ابنته: هل نحرك نحن الله؟ هل إرادتنا هي ما يحرك الله لينتقم؟ ولو للبشر تحريك إرادة الله؟! فلم لا يحركونها لاستقدام الخير منه؟ ولِمَ يستمتعون أكثر بتحريكها للانتقام؟!إجابته غريبة نفس غرابة أطواره معها.. قال لها عجيب وهو ينظر إلى السماء كما لو كان يحدث شخصًا آخر: التحريك للخير صعب يا فوزية!! تنمو بذوره في زمن طويل، لن يمتد بنا العمر لنراه.تصمت صمت العارفين، إن كلامه صحيح؛ فالتحريك للشر أسهل بمراحل، ولا يتطلب إلا نفحات الكره والبغضاء والبارود مع إيمان عميق، مثل إيمان والدها وزوجها، إنهما بمثل هذا الفعل يقدمان للعالم الخير كله، تتنهد وهي تعلن لنفسها أن التحريك للخير يستلزم صبرا وإيمانا لا يسهل لا على زوجها ولا والدها امتلاكه، أسهل شيء على الإنسان أن ينتقم، وأصعب شيء أن تتملكه روح التسامح، أسهل شيء أن يقتلع الشجر، وأن يفنيه وهو يأكل ثمرته وحده، وأصعب شيء أن يصبر على النبات يسمده ويرعاه حتى ينمو لتصبح ثمرته من نصيب أجيال أخرى ستحيا في أزمنة مختلفة عنه وتالية لزمنه.كان عجيب يغوص في أحلامه، وإيمانه أنه حين يموت، وهو يقتل كل هؤلاء الناس حوله، سيكون شهيدا، وبموته أو شهادته سيؤمن باقي البشر وتنصلح أحوال العامة، فلا يصرفهم عن الصلاة والعبادات شيء، فيرقيه الله في الجنات بثواب المصلين، ودعوات المؤمنين الجدد، عندما يرى الناس بأعينهم الفناء الحقيقي، والموت الذي لن يترك خلفه حيا واحدا سيؤمنون، وسيتذكرون ما كانوا قد غفلوا عنه من أن الدنيا فانية، وأن الموت لا يترك أحدا، نقتل البعض ليتخذ الباقون من موت من ماتوا عظة!كانت زوجته ابنة الشيخ عزيز لا تيأس من معاودة محاولات استعادته إلى العالم الطبيعي الذي تؤمن هي به: هل عجز الله عن إهلاكنا فأرسلك أنت؟ يا أخي لو إحنا بنغضبه سيبنا مننا له!!كان لا يطيق الاستماع إليها، لكنه مؤمن بقدرات الله، الله الذي لو قال للشيء كن سيكون (إن قدرات الله عالية ولا حدود لها، لكن إرادته تثير دهشة عجيب ولا تضاهي أحلامه ورغباته للكون، كيف يترك الله كل هؤلاء العصاة حولنا؟ كيف يبقي عليهم أحياء؟ بل ويرزقهم ويوسع في الرزق أحيانا!! لم لا يهبهم كن واحدة فيفني العصاة والفاسدين؟ ربما يحملنا نحن هذه الأمانة!يعلن لها دائما: إن الله خلقنا لنفعل لا ليفعل هو، عاقب أهل ثمود، وقوم عاد ليخبرنا ماذا ينبغى أن نفعل بالكفار والعصاة، يفكر كثيرًا ثم يقول: لقد عرفنا من هذه القصص كيف يكون عقاب الظالمين.كاد عجيب أن يقول (مرة عليه ومرة علينا)، ولولا أنه وجدها عبارة لا يمكن استساغتها دينيا لنطق بها.كان عجيب شديد الاهتمام بالاستماع إلى التأويلات التي تقول إن عذابات سيدنا بلال وجلده وقوة احتماله هو وغيره من أوائل المسلمين كانت دافعا قويًا لإيمان وإسلام من لم يسلم بعد في مكة، فقد رأى المسلمون الأوائل في بلال وغيره، ممن سبقوهم إلى الإسلام، رجالا يضحون بأنفسهم، ويتحملون مشاق التعذيب في سبيل دينهم الجديد، فاقتنعوا أن من يتحمل هذا العناء لا يتحمله إلا من أجل حق، فساروا على نفس النهج وأسلموا لله، كان يرى الشبه بينه وبينهم كبيرا، كرس حياته من أجل نيل الشهادة، يتمناها لتكون وسيلته الأقرب للوصول لمعية الله ودخول جنته، أتعذب من أجل ديني كما تعذب أوائل المسلمين، أموت من أجله فقط، عندها سيؤمن من لم يؤمن بعد، وسيتأكد إيمان من آمن من قبل.ولكن عندما كان يصل إلى أسماع عجيب نفس الشيء عن أوائل المسيحيين وعذاباتهم من أجل دينهم الجديد، يشيح بوجهه بعيدا، يصم أذنيه، ولو كان الحديث عن أوائل المسيحيين يصل إلى أسماعه من شيخ معتدل يتحدث في إحدى القنوات الدينية، فبلا شك كان سيغلقها فورا، أو يغير القناة، أو يرحل عن المكان وهو يستغفر الله، ويستعيذ به من شياطين الإنس والجن والعلم والعلماء، فعجيب لا يمكنه أن يتخيل أي إيمان أو اعتقاد بالله يقترن بشئ غير الإسلام، حتى لو كانت عقيدة منذ ألفي عام أو يزيد وسابقة على ظهور الإسلام، كان عجيب يتمنى لو أنه خُلِق أيام الرسول فأفنى نفسه في محبته وطاعته والعذاب والموت من أجل الدين الجديد، وكانت زوجته تقول له: لو أنك تحب الإسلام فأحمد الله أنك وُلِدت مُسلِمًا، فلو أنك وُلِدت في عهد قريش لكنت أشد أعداء الإسلام، وربما كنت أنت شخصيا من يضع الصخر على صدر سيدنا بلال! يا عجيب أنت لا تفكر، أنت تقبل الأشياء كما هى، كما يُلقنها لك الآخرون. كان يعترض ويعلن لها أن الآخرين الذين تشير إليهم من خيرة من تعلم عنهم الدين، وعلى رأسهم والدها الشيخ عزيز، ويتعجب كيف أنها هي ابنته، ولم ترث علمه وتقواه فلم تُجهِد نفسها لتحفظ تفسيراته للقرآن والحديث!! كان يضرب كفًا بكف وهو يعلن: أبوكِ عزيز ما علمكيش حاجة!!فتتساءل: وده يبقى اسمه إيه؟ مش ده ما يفرقش عن عبادة ما وجدنا عليه آباؤنا؟!! شفت يا عجيب إنك لو لم تَكُن قد ولدت على الإسلام لفضلت تعبد الأوثان والحجر، ديننا قال لنا اقرأ، وما قالش صُم اللي أبوك وخالك وعمك والشيخ عجيب حفظوه لك.كان يسألها: هل تجترئين على حفظنا القرآن؟ فتشيح بوجهها وتجيب: بل على حفظكم التفاسير كما هى، وأحيانا كما تشاءون أنتم فقط. يا عجيب ليس جوهر الدين أن نموت من أجله فقط، وأن نختلق صراعات فقط من أجل فكرة الجهاد والاستشهاد، صراعات أغلبها يكون بين مسلم ومسلم!! أي نوع من الجهاد هذا؟ ليس الدين أن نترك العلم والعمل ونسعى لاختلاق أسباب جوهرية أو غير جوهرية لنَهب دمنا فداءً لشخص أو جماعة أو فكرة، تعلم، عَلِم واقرأ، اعمل، كل هذا جهاد من وقتك ومالك وعافيتك، أنت مولود لتموت أو لتكون شهيدًا، فكرة شاعرية، وربما كانت منتهى العطاء، لكن هذه الروح الغالية لا يجب أن تبذلها إلا وأنت تعرف أنك تبذلها في محلها؛ لأن فرصة استعادتها لتصحيح أي وضع ستكون مستحيلة بعد رحيلها.أي نوع من الجهاد هذا ؟ تستغلنا أمريكا في حربها ضد السوفييت باسم الجهاد والدين، وهي تسعى لمصالحها الخاصة، تشتعل الحرب بين إيران والعراق وتتحول الأمور في المنطقة مع الزمن لحروب شيعة وسنة، وبعدها العراق والكويت، وحاليا إنت جاي تفترض صراع بينك وبين أي مسلم تاني بس بِحِجة إنه ما عندهوش نفس أفكارك، كما لو كان الإسلام حِكرًا عليك وانت بس اللى فاهمه وعارفه، وأي حد تاني طالما أفكاره مش شبه أفكارك يِبقى يا غلط يا كافر !! مُتخيل ده هيوصلنا كلنا لإيه؟ مجموعة من الحروب الدينية عار علينا لأنها للأسف بين مسلم ومسلم.عجيب: هرتلة !! اللي بتقوليه ده كلام فاضي، في أفغانستان بلا شك كان علينا مساعدة إخواننا المسلمين.تتذمر فوزية: واليوم علينا قتل مواطنينا المسلمين أيضا؟!كانت زوجته تقول له هذا أحيانا جهرًا، وأحيانًا في صراع فكري لا يخرج خارج مخيلتها؛ فكثير من الأشياء والأفكار احتفظت به في صدرها حيث اعتادت أن تحتفظ بمشاعرها حبيسة أحدها إلى جوار الآخر، وعندما يثقل صدرها تتساءل بقلق: هل ينبعث من المشاعر المكبوتة والمردومة في الصدر رائحة يتعرف بها الآخرون عليها؟ للخُبز رائحة وللحم المشوى رائحة وللبن رائحة أخرى، لا بد أن يكون لأفكاري ومشاعري رائحة من نوع آخر، رائحة لا يلتقطها عجيب.كانت رائحة القهوة تعبق المكان، ورائحتها هي لا تعني له شيئا، في الشتاء ليس للإنسان رائحة تميزه، وفى فصل الصيف يميزه العرق مالم يواظب على الاغتسال والتطيب، لكن عجيب كان قد فقد التمييز فيما يتعلق برائحة المحسوسات، ولم يتبق في أنفه إلا القدرة على تمييز رائحة البارود والقهوة والمحروقات.هكذا كانت فوزية تحترق شوقًا وهى تَتَعطَر، وعجيب مُمْسِك بفنجان القهوة يَشُم الطِيب منه وفيه، وهي تتساءل: هل ينتزع مراسِم الشهوة من فنجانه؟ هل يشبع منه وفيه؟كانت تتأمل نفسها في المرآة، تضع العِطْر وقليلًا من أحمر شفاه، تعدل شعرها إلى الجانِب الأيمن، ثم إلى الأيسر حين فاجأها عجيب وهو يرشف قهوته: إنت بتعملي كده ليه؟ ما خلاص خلصنا.هو عادة يقول عبارات متشابهة بعد الانتهاء منها، انكسار خلف انكسار خلَّف في نفسها مرآة مشروخة في كل اتجاه، مرآة لن يرى أي شخص نفسه فيها بصورتها السليمة، مرآة لو قُدر لها أن تتحرك فستتحرك في كل اتجاه تخدش بقوة وتجرح بعنف.أعاد مقولته: مش خلصنا؟!نظرت له، هل أعاد مقولته حقا؟ أم هي صدى عباراته لاتغادر سمعها، تسمعها مرارا وهي تستحم، وهي تعد له الطعام، وهو يغادر المنزل، تُفَتِش في البيت فلا تجد له أثرًا، لكن عبارته موجودة تُطارِدها وتُعَنِفها، تَقْهَرها، تصمت وهو موجود، وتتشاجر مع صدى صوته كثيرا بعد أن يغيب: مش خلصنا؟حين كانت صبية كانت تتباهى بمقاسات جسدها، خصرها وصدرها، تقيس وتجمع وتطرح ثم تخبر صديقاتها أنها تمتلك مقاسات تتطابق تماما مع القياسات العالمية لملكات الجمال، الآن ما إن ينهي علاقته معها في الفراش حتى يأمرها أن تستتر، استترت حتى برز كرشها ومؤخرتها وغاب الخصر في غياهب الدهون التي لا تجد وسيلة جيدة للتخلص منها، كل ما لديها من رياضة هي الأعمال المنزلية وهى بارعة فيها، تنهيها في وقت قياسي وبأقل مجهود مقارنة بالأخريات.مش خلصنا؟ عبارته الأكثر شهرة في علاقتهما، تنظر إلى المرآة وتحادث نفسها بما تعرف أنه من العيب أن تخبر الآخرين به: تعامل على أنه وحيد القرن في العلاقة، مادام هو خلص فأكيد كل أطراف العلاقة خلصوا!! الأمر بالنسبة له أنه ارتوى في لقائه الأخير منها، لقاء انتهى منذ دقائق، الأمر بالنسبة لها أنها اقترنت برجل مجنون تحاول إرغام نفسها على محبته أو استطعام وجوده، فليكن الجنس هو شراكتنا الجميلة.
مشاركة :