ننشر فصلًا من رواية بنات الحاج لهالة فهمي

  • 4/15/2020
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

انسلتنا من الباب، احتوانا الظلام، غلفنا ضوء القمر بغلالته الفضية الرقيقة، خطونا على وقع نقيق الضفادع، وشوشة العاشقين، همسات الأشجار للعصافير العائدة إليها بعد صباح طويل، نباح الكلاب جعلنا نلتصق حتى صرنا خيالًا واحدًا، طرقنا الباب هامستين:- افتحي.- من ؟!ّ - أحلام.اقتربت من خلف الباب غاضبة:- ليست أحلامًا.. بل كوابيس.. الساعة الواحدة بعد منتصف الليل.فتحت في الباب طاقة صغيرة تبنيت وجهينا: - بنات الحاج.. يا اهلًا وسهلًا.- بسرعة يا نعيمة عنب وتين و....- بنفسيكما.. لماذا لم.. ؟! - إياك أن يعلم احد.. أردنا أن نشم الهواء ونتذوق طعم فاكهتك البايته الآن.. ما رأيك ؟! نظرت نعيمة في حيرة وخوف.. موجهة كلامها لعمتي أحلام غامزة بعينها:- الليل خطر يا بنات.أمام نظرات عمتي الصامتة.. هزت رأسها، على غبش الضوء حملنا أغراضنا وعدنا نتلمس الطريق، هناك فوق الجسر.. سمعنا همسًا وضحكة مكتومة.. ثم صمتًا مقتولا:- عفاريت يا عمتي.قربتني تحت إبطها قبضت على كفي، دفعت الخوف عن نفسها وعني.. وشوشتني: - عفاريت أنسية لا تطلع إلا في أنصاف الليالي مثلنا.. أسرعي لنعود.. لو استيقظوا واكتشفوا غيابنا؛ لن يكتفوا بحبسنا في الزريبة.. قد يدهوننا عسلا ويطلقون علينا النحل.. قالتها وهي تضحك.. نبهت ضحكتها المختبئين خلف مقام الشيخ عبدالله.. ما عدنا نسمع هسهسة من خلفه. ***اختلسنا الهدوء من فوق عتبات الدار، ونحن نلج من بابه.. حينما دوي صدي المزلاج صارخًا فاضحًا.. علا صوت عمي رجب: - من بالخارج؟! جرينا للحجرة، كمرنا أكياس الفاكهة في صندوق الملابس القديمة لجدتي.. ألقينا أجسادنا فوق الفراش.. غطينا الجفون بالنعاس.. اندمجنا في تمثيل دور النائم حتى أننا غرقنا فيه.. لم نسمع نقرات العصافير وهي توقظنا في الصباح.. فتقوم إحدانا لتغلق الشباك ونكمل حتى الظهيرة نومنا. أفقت على صوت جدتي: - أحلام.. يا ملك.. النوم للظهر يطفي نور جبينكم يلونه بالصفرة.. على رأى المثل "يا نايمة للظهرية يا معلمة حماتك الآسية" خليكم نايمين.. يا أم أحمد هاتي الملس القديم من الصندوق.قفزت عمتي من فوق السرير لم تصل إلا على صوت أم أحمد:- فاكهة في الصندوق ياست!! ودى حطة برضه؟!- مين جابها ؟ أنت يا حاج؟!- لا.. يمكن طاهر أورجب.في خفة قفزت أم أحمد إليهما.. ورجعت بالإجابة التي حفرت فوق تقاسيم الوجه رهبة البوح بها.- "يا ستي" البيت مسكون.. لم يشترها أحد!! ثار جدي.. طرحت الأسئلة.. وماتت الأجوبة فوق الشفاة.. وانقسم السر بيني أنا وعمتي ألقت أم أحمد بالفاكهة.. خوفًا من أكلها فهي فاكهة شيطانية.. شاع الخبر.. تجاوز بيتنا.. طار إلى نعيمة التي كتمت سرنا وهي تضحك بخبث على بنات الحاج.عبق الياسمين المختلط بزهر البرتقال.. رائحة التوت ومسك الليل.. ترسم خريطة الأرض الممتدة على حواف النهر والتي ورثناها أبًا عن جد.. وورثنا معها تلك النزعة المتعالية المتأففة.. لم تكن جدتي منتمية لعائلة الحاج شاهين.. لها ملامح تفيض طيبة ورقة.. كان يحيرني صمتها.. كلما افترشت حجرها لتحكي لي حوا ديتها الجميلة معابثة شعري كنت اسمع همس تسبيحها وكثيرًا ما سقطت دمعاتها ساخنة فوق رأسي كانت تواريها بكمها وبسمة مستسلمة تعلو وجهها السمح.. تقول: - آه يا ملك.ولا أخفيكم قولًا كنت أشعر دائمًا بأنني أعيش في حجرة واحدة في هذا البيت الكبير وباقي غرفه مغلقة على أسرار مخيفة.. خاصة تلك الطقوس الغريبة التي كانت تجري.. ففي كل خميس تخرج جدتي بعد المغرب إلى مقام الشيخ عبدالله أعلى الجسر.. توقد الشموع وتسند ظهرها على الضريح وتترك لعيونها العنان لتسكب دمعها الملتهب.. وعند آذان العشاء تلفلف أحزانها وتعود للبيت ثلجه صامته وتنام دون عشاء.. لا أذكر أنني رأيت جدتي ذات يوم تأكل كما نأكل أو مم نأكل.. بل لقيمات قليلة.. أسألها عن سر زيارتها لمقام الشيخ عبدالله.. تحكي لي حواديت لعل أحلاها: أن النهر ينشق في المساء وتخرج منه الحوريات تمتطي حوافه وتعبث برقرقات موجه الحالم.. تنادي على بنات البر.. وتأسر الجميلات منهن.. وأن نساء قريتنا الساهرات فوق أسطح منازلهن في الليالي القمرية سمعن الحوريات تنادي: يا صبية.. أين الصبية.. نريدها.. ويقال أن الشيخ عبدالله كان يشاهدهن وهو ذاهب إلى المسجد قبل صلاة الفجر ليفتح الجامع ويعده للمصلين.. كن يداعبن النهر بأرجلهن فترتعش المياه نشوانه محدثة تلك الأمواج المهتزة وفي ليلة ركضت صبية جميلة مثلك نحوهن منادية: - يا نهر انتظرني.. يا بنات النهر خذوني.. لكن ضفتي النهر احتضنت الحوريات.. وصمتت الرقرقات وسكنت النجوم ذابلة إلا من ضوء مغامر بعثر السر.. وكشف عشقها للنهر ولم يسكن إلا والناهدة الصغيرة مسجاة فوق شاطئه يومها اشتعلت مياه النهر وانطفئت ولم تعد الحوريات تداعبه ولم يعد هو يشتهي ظهورها.. والتزم الشيخ عبدالله صمته.. ولم يترك هذا المكان حتى مات فيه.. وأقيم له الضريح.. تزوره النسوة.. تبكي عنده تتخلص من الأوجاع والهموم. لم أكن أدري حقيقة الحدوتة.. هل هي خيال أم أن جدتي تنفث ضيق صدرها مازجة الأوهام بالحكايات.. ولا اعرف كيف لم أربط أبدًا بين حكايات عمي طاهر وبين حكايات جدتي.في هذه الأيام سكنت حواديت جدتي جبًا عميقًا فقط عديد لم أسمعه من قبل عن ملك وأحلام: "عرايس حلوه مغربين بيهم الشعر ناعم والبياض فيهم" "يا ميت خسارة على اللي جرلنا ومين من الهم هيخلصنا" وفي غياب جدي عن البيت كان عديدها يختلط بالنحيب كلما تذكرت عمي فؤاد.. "زين العرسان في سجنه ما قام.. يا حيطة أنهدي وانكسفي من زين الفرسان". "و لدي الحزين شق قفطانه.. بكي عليه عمود البيت وحيطانه " "ولدي الزين شق القميص للذيل.. قال أبوه: سندي الغالي راح فين.. يامين يرده لي " ثم تخبط على فخذيها صائحة: "قليل الولد خلية في حاله.. طول النهار ما ينفرح حاله " " قليل الولد في غلبه طول النهار ما ينفرح قلبه" عديد جدتي هو كل ما أسمعه منها بعد صمت سنوات.. كانت جبال الجليد التي تغطي السر تذوب من حرارة الحزن وكانت رؤسه تطل كأنها ماردا يتمطى فاردًا طوله.. بينما انتظره لأشبع فضولًا اعشوشب داخلي لسنوات.

مشاركة :