تحت الطباعة.. ننشر فصلا من رواية أفلام الظهيرة للكاتبة إنجي همام

  • 2/17/2021
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

صباح طيب كروحك ...اليوم لدينا الكثير من الكلام، لن أبدأ بالفيلم، سأبدأ بك أنت، بك أنا، أوحشتني، لا أعرف كيف لذلك أن يحدث، كيف تكون الوحيد الذي لا أفارقه والوحيد الذي لا أشتاق سواه، أي وصل بعد هذا الوصل يمكن أن يكون لترتوي روحي منك فتشبع، وأي حيرة أعيش أسيرة لها منذ عرفتُ نفسك، تعرف أنت كل شيء، تعرف ما حدث وما يمكن له أن يحدث، تعرف روحي أكثر مني، لكنك أبدا لا تُجيب حيرتي، تبتسم إبتسامتك الماكرة الحبيبة وتصمت، ماكرة وأحبها كما هي، شريرة وهي الوحيدة من شر العالم أرتضيها، إنه الشر الطيب، أسمعت عنه من قبل، وكيف لا يكون له أن يصبح طيبا وهو شرك أنت، شر البراءة والطفولة التي لا تبرحك، لم أحبك ملاكا وأعرف، وأحب كل ما فيك حتى شرورك الطيبة، ربما لآخرين أن يعترضوا، ربما يصرون على وصم الأحبة بالكمال، أو وصمك أنت، أجل إنه وصم، وما جمالنا أحيانا سوى تلك الهنات، بعض العيوب، لا يهمني تصورات البشر المليودرامية عن الأحبة والأعداء، تهمني وحدك من كل شيء، يكفيني أن تفهم كيف أحبك، أن تشعر بتدفق روحي في روحك، أن تستقبل عودتي إليك، عودتي الأبدية .. عودتي الأزلية، فما جئتُ هنا إلا لأعود إليك، تقف خلفي .. يدك على كتفي في الحديقة، أمام البحيرة الصغيرة، نفتت الخبز للطير ونطعمه إياه ضاحكين، نفرغ من كل شيء لنرانا، تُدير وجهي إليك، تُدير كلي إليك، تمتلك ضحكتي وحدك، تحفظها في عينيك، تمسح وجنتي بكفك وتسحب نفسا عميقا من الحياة، أفتتُ قلبي وأطعمك إياه، أضع رأسي الصغير على صدرك بتلقائية، لا يهمني الناس، للأحبة أن يغفلوا العالم خلفهم، تضمني بقوة، لا يهمك الناس، تمنحني الأمان الكامل فأنسى أن هناك عالما، أنسى تفاصيل الحياة، الساعات المتعاقبة، المهام التي لا نفرغ منها، القيل والقال، القبح والنوايا السوداء، آلام قدمي في النعل العالي، رطوبة الجو في شهر أغسطس، الحياة والموت، لأبقى في صدرك لما قبل الحياة وبعد الموت، لم أعرف شيئا أكثر جدية في عمري كله قدر محبتك، لم أختبر ثقة تشبه هذه الثقة، ، تحملني فيك وتمضي، فلا أعود أنتمي لسواك، ليت لهذه النهارات أن تجيء، ليت للفرحة المجنونة أن تكتمل، آاااه يا حبيب روحي، ماذا للأحبة بعد، ليس بعد المحبة سواها، وليس بعدك من شيء، ميقات العالم أنت، ميزان روحي وعقلي، يضحكون عندما يعرفون أني أضبط كل شيء عليك، كل شيء لا معنى له ما لم أقسه عليك، إن لم تكن ثمة علاقة فهو شيء مفرغ من أية قيمه، وأضحك لأن الحب لا يُشرح لأحد، يودون الفهم، لا أعرف مدى صدق نواياهم، مصيبة العشاق أنهم أنبياء محبة، رسل يدعون بدعوة لا يكلون من حملها والطواف بها، لو كان لهم أن يدركوا فراغ العالم، فراغ لا أمل لملئه، إيمانهم يدفعهم، فيثرثرون، وجنونهم بالمعشوق يزج بهم في معارك ساذجة، لا يكفون عن الحديث، ولا يسمعون الضحكات الخبيثة، ورغم كل شيء تبقى المحبة، لحن لا ينقطع، يملأ الدنيا وإن لم يسمعه أحد، يملأ الهواء فيتزن الكون ويستقيم، لولا المحبة، لولاك، ما كان لي أن أبقى، أتعرف، سأحكى لك فيلما كذلك عنها، وما من فيلم إلا هو عنها.. بحسب الرائي، وكذلك أرى، لا شيء له معنى في هذا الكون إلا عنها، وعنك ... أرجع ظهرك للوراء وابتسم، نعم .. كذلك، رأيتها، ابتسامتك الحنون هذه المرة، اسمع يا سيدي، فيلم الليلة عن تلك التي ضيعت حبيبها وعادت لتبحث عنه في مدينة كبيرة لم تعرفها قط من قبل، رحلة طويلة من بحث عن حبيب مفقود، لا يهم فقد العنوان المهم أنه ما زال حبيبا، للحياة أحكام قاسية دوما، أو هكذا تبدو، ربما كان عليّ أنا الأخرى أن أظنني كذلك، ضيعتك، ولكنني عندما ضعيتك وجدتك، ربما لهذا وحده وجدتك، في الآونة الأخيرة صارت نظرتي أكثر تسامحا في شق منها، بِتُ أرى كثيرا من القساوة البادية على وجه الدنيا رحمة مستترة، رحمة مقنعة بقناع مخيف، لا تخلعه الدنيا عنها إلا في الأخير، ربما وصلتُ لذلك الجزء من إدراك الوجود، وعلى الأغلب لهذا وحده أتمكن من المواصلة، فلنعد للبطلة، كان سؤالها الأهم والأكثر إلحاحا طيلة الرحلة، هل ستجد نفسها لا تزال بقلبه، أو على الأقل هل لن تجد هناك أخرى، كان أول ما سألته عنه ساعة اللقيا، وبعدها ارتمت في صدره، أما هو فبدأ يروي عليها كل الأحلام التي حلم بها في غيابها، هل حكيتُ لك حلم البارحة؟ لا أذكر أني فعلت، كنتُ تائهة، كعادتي، كان طريقا طويلا غير واضح المعالم، أرى السيارات بعيدة على طريق عمومي متعامد على ذلك الذي أمشي به، سيارات وحافلات نقل عمومية عالية، مثل تلك الحمراء القديمة التي كان يتدلى الشعب من أبوابها التي لا تنغلق أبدا، أما حيث كنتُ أمشي فلم يكن ثمة شيء سوى بعض المحال الصغيرة المغلقة، كان حذائي مؤلما، لم أكن أراه، لكنني كنتُ أشعر بوجع كبير في قدميّ، كان حذاء مفتوحا لأن رمال الشارع الناعمة كانت تتسرب بين أصابعي، كان يضايقني ذلك الشعور، فكنت أسرع الخطو لأنتهي من كل ذلك، لكن هذا الإسراع كان يزيد من الرمال الناعمة داخل نعلي المزعج، عندما بلغت الطريق العام نظرت في ساعتي التي تذكرتها فجأة، كانت تشير للثالثة، لم أصدقها، فالليل حولي في كل مكان، بالطبع لم أكن بعد منتصف الليل، هكذا أخبرت نفسي ضاحكة، المواصلات تتوقف منذ عام أو يزيد في العاشرة مساء، فكيف تكون الثالثة فجرا الآن؟!، بالطبع ساعتي خربة، لا يهم، أجدني في تلك الحافلة الحمراء العالية فجأة، تجلس جانبي "لولا صدقي"، لا تضحك، تعرف إنهم جميعا يسكنون أحلامي، ليست لولا من صديقاتي المقربات، لكنها معرفة طيبة على كل حال، كانت تحيك وشاحا صوفيا، أنظر لها وأضحك بصوت عال، نحن في عز الصيف، أقول لها دون مقدمات، ترفع حاجبها بنظرتها الشهيرة، لا تتفوه بكلمة واحدة، تعود لوشاحها من جديد، أعطيها ظهري وأنظر من النافذة، أحب تلك النوافذ العالية بشدة، الهواء يطير شعري فأضحك مجددا، تحمل لولا أشياءها وتقوم من جانبي بهدوء، أراها تمشي ببطء بنعلها العالي تمشي وتمشي نحو مقدمة الحافلة، يتمايل عودها الرشيق يمنة ويسرة في فستانها الضيق وكأنها عارضة أزياء، لكنها تمضي للأمام فقط، ظلت تمضي إلى أن أفقت، لماذا حلمت بلولا؟ شاهدت فيلما سويديا في عالم آخر صباح نفس اليوم، ذلك الذي كنت أحكيه لك في البدء، آه الفيلم، ما الذي جاء بنا إلى هنا؟ أحلام البطل، تذكرتُ الآن، كان مخرجا سينمائيا وكانت كاتبة سيناريو، اقترح عليها أن يحولا تلك الأحلام لفيلم، ليس بالضرورة أن يكون من المدرسة التعبيرية الألمانية، هكذا قال فضحكت وضمته برفق، أتعرف، أرفق ما في هذا العالم عناقاته، حتى وإن كانت قوية عنيفة، كانت تربت على شعره بحنان جعل عينيه تلمعان، هل تظن أن حنانها المصطنع خلق في عينيه ذلك البريق بحق، الفن، ذلك الأمر المحير أكثر من غيره في عالمنا الأجوف، أعرف أنك ستقول والمحبة، بالطبع والمحبة وربما تسبقه هي، ربما كان البطل يحب البطلة في الواقع، ربما كانت هي من تحبه لذا نقلت إليه شعورا صادقا، ربما كان احتياجا جاء في موعده، تلك المشاعر القوية التي يجعلني هذا الممثل أو ذاك أصدقها، أتأثر بها لدرجة تغيرني من داخلي كليا، كل ذلك لا يمكن أن يكون فارغا من الصدق، ليس في التمثيل وحده، لكن التمثيل إشكاليته أنه تمثيل، يمكنك وضع كل طاقتك الشعورية في لحن ما، ولا يكون إدعاء، يمكن للرسام أن يفعل، أما الممثل يظل يقدم مشاعر ليست له، على الأقل في هذه اللحظة، سمعت بعضهم يحكي أنه يشحذ لحظته أمام الكاميرا بلحظات من ماضيه، حزن أو فرح لا يهم ما تذكر ليدفعه أمامنا مقدما هذا الشعور أو ذاك، أتعرف، بدون الفن ما كنتُ عرفت العالم، لا أرى الدنيا إلا في مرآته، لا أفهم شيئا لم يقله، هو اللغة الوحيدة التي أجيدها، لا أعرف هل أجيد التحدث أم لا، لستُ موقنة إن كان يفهمني أحد، لكني متأكدة أني أجيد الفهم، وحدها تلك اللغة من لغات الدنيا كنتُ لها وكانت لي، منذ طفولتي علموني إياها، تركوني مع الأغنيات والأفلام، ثم مع الكتب، عندما حملتني أقدامي ذهبت للمتاحف والمعارض والمسارح، وحده عالمي الذي يمكنني أن أمضي فيه وأنا مطمئنة تمام الطمأنينة إن تهتُ، حتما سأتوه والتيه فيه وجود ووصول، وكذلك أنت، نفس الشعور أشعره معك، لا عجب إن رأيتك هو ورأيته أنت.مر وقت لم أحكِ لك شيئا عن الرواية الطويلة، عدتُ إليها مجددا بالأمس لم أفعل شيء يذكر، فقط غيرت اسم البطلة، تلك التفاصيل الصغيرة التي نصنع منها عالما، بل عوالم بأكملها، ربما في اليوم، في الليلة، لمحة دقيقة، وربما دفقات غزيرة تقطع الأنفاس، إنها روايتي الأصعب على الإطلاق، لكل كتابة صعوباتها من جهة ما، قد يتعلق الأمر بالكتابة نفسها أو بي، وقد يتعلق بظروف أو حالة مزاجية، ربما الطول والتفاصيل ربما الأمر يستلزم شجاعة ما، أما هذه فتجمع كل الصعوبات معا، أتعرف يا محمد، إنها تنمو وتستطيل منذ سنوات، تنمو بجانبي، أشعرها بدأت بنبتة صغيرة على الطاولة المجاورة لوسادتي، واليوم صارت شجرة عملاقة تفترش ورقاتها العريضة كل زاوية في البيت، بل في الشارع، في كل شارع أسير فيه، كلما أرجأتها وذهبت في ناحية ما مع كتابة أخرى، أجدها تكتب نفسها بنفسها، أجد الكثير من القصاصات المبعثرة بمسوداتها كل صباح، أجدها كما أجدك، وأضمها كما أضمك، سأغيب معها بضع ساعات، وأعود إليك، سأحكي لك كل ما حدث.قبلاتي حتى نلتقيوجد .

مشاركة :