الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،أما بعد،،،فما هي إلا أيام قلائل ونودِّع هذا الشهر المبارك، شهر الخيرات، والطاعات، شهر النفحات والقربات،... شهرٌ كان المسلم يحافظ فيه على الصلوات المفروضة في وقتها، كان يداوم على النوافل والسنن الرواتب، كان لا ينقطع عن قيام الليل، ولا عن تلاوة القرآن، كان لا يبخل على فقير أو مسكين بالصدقة، كان جوادًا كريمًا...هذا كان حال المسلم في رمضان...ولكن ماذا بعد رمضان؟؟ هل سيداوم على ما كان يفعله في رمضان؟ هل سيحافظ على العهد الذي بينه وبين ربه؟ إن الحقيقة المؤلمة والواقع المر، أنه بعد رحيل هذا الشَّهر الكريم، نلاحظ أمرًا غريبًا وظاهرة عجيبة، ألا وهي التوقُّف عن القيام بالأعمال الصَّالحة، مثل ما كانت تؤدى فيه، فنجد التكاسل عن الصلاة في وقتها، ونجد أكثر المصاحف مغلقة، ونجد الكثير مُعْرضا عن الصدقة وإطعامِ الطعام... وقد ضرب الله لنا مثلًا لمن نقض العهد بعد توكيده، وبين لنا شناعة إتيان الفساد بعد الإصلاح ؛ فقال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ ۚ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) النحل :(92).ولقد حذرنا الله جل علا من أن نكون مثل هذه المرأة التي كان لها خيط تغزله، وبعدما انتهت من غزله قامت بتفكيكه مرة أخرى. قال الإمام الطبري – رحمه الله- في تفسير هذه الآية : يقول تعالى ذكره ناهيًا عباده عن نقض الأيمان بعد توكيدها، وآمرًا بوفاء العهود، وممثلا ناقض ذلك بناقضة غزلها من بعد إبرامه وناكثته من بعد إحكامه: ولا تكونوا أيها الناس في نقضكم أيمانكم بعد توكيدها وإعطائكم الله بالوفاء بذلك العهود والمواثيق (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) يعني: من بعد إبرام. وقيل: إن التي كانت تفعل ذلك امرأة حمقاء معروفة بمكة،.. وقال آخرون: إنما هذا مثل ضربه الله لمن نقض العهد، فشبهه بامرأة تفعل هذا الفعل.( ) ينبغي عليك أيها المسلم الكريم أن تعلم أن رمضان أشبه ما يكون بمحطة وقود تدخلها السيارات لتأخذ قسطًا من الطاقة لتنطلق بها في إيصال راكبيها إلى مأربهم وإلى قضاء حوائجهم، فهل يكون من العقلاء من يزود سيارته بالوقود ليقف بها بعد محطة الوقود مباشرة؟؟!! إن الثبات على الطاعة – عزيزي القارئ – ليس بالأمر الهَيّن، وليس عملًا يسيرًا إلا على من يسره الله عليه؛ لذا أمر الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – أن يدعوا بهذا الدعاء {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]. وعن شَدَّاد بْن أَوْسٍ – رضي الله عنه- قال : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا أَنْ نَقُولَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ، وَأَسْأَلُكَ عَزِيمَةَ الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ لِسَانًا صَادِقًا، وَقَلْبًا سَلِيمًا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا تَعْلَمُ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ»( ).وعَنْ أَنَسٍ – رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ»( ) والتزود من الطاعات في المواسم – عزيزي القارئ- هدف لكل أوقات الحياة، فإذا كان هذا الشهر المبارك موسمًا للطاعات بأنواعها فمن رحمة الله بنا أن مواسم الخير لا تنتهي، فبعد رمضان لا ينتهي الصيام، فهناك صيام ست من شوال، ويوم عرفة، ويوم الاثنين، ويوم الخميس، و أيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر هجري، ويوم عاشوراء،، وغير ذلك، لا بد وأن يحافظ المسلم على ورده من تلاوة القرآن ، ينبغي عليك أن تمتع بصرك يوميًّا بالنظر في كتاب الله تعالى، حافظ على صلواتك كما كنت تحافظ عليها في رمضان، داوم على الصدقة كما كنت تتصدق في رمضان، داوم على قيام الليل كما كنت تتهجد في رمضان، لا تنقطع عن فعل الخير، فإن أحب الأعمال إلى الله تعالى ما داوم عليها صاحبها وإن كانت قليلة؛ فعَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها- : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الجَنَّةَ، وَأَنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ»( )نسأل تعالى الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ، و عَزِيمَةَ الرُّشْدِ، و شُكْرَ النعمة، وَحُسْنَ العبادة.
مشاركة :