يتمتع كثير من المنظمات الدولية في العالم بعمر يماثل عمر الدول القومية، فالاتحاد الدولي للاتصالات أقدم من دولة ألمانيا، ومنظمة الملكية الفكرية العالمية تنحدر من مؤسسة أسهم في إنشائها الأديب والشاعر الفرنسي فيكتور هوجو، في القرن الـ19. وعلى النقيض من ذلك فإن عمر المؤسسات الدولية المعنية بتنظيم العلاقات التجارية بين دول العالم لا يدوم طويلا، بحسب الكاتب والمحلل الأمريكي ديفيد فيكلنج، وفقا لـ"الألمانية". ويرى فيكلنج في تحليل نشرته وكالة "بلومبيرج" للأنباء أنه بعد 25 عاما من تأسيس منظمة التجارة العالمية، يبدو أنها تندفع نحو المجهول وباتت قريبة من مصير سابقاتها. رئيس المنظمة روبرتو أزفيدو الذي تولى المنصب منذ سبعة أعوام قرر الاستقالة بحلول آب (أغسطس) المقبل، أي قبل عام من اكتمال ولايته الثانية، في قرار ليس مفاجأة على الإطلاق، بحسب بيان رسمي صادر عنه أمس الأول. المملكة التي يجلس على عرشها تنهار بالفعل، وتحرير التجارة العالمية باعتباره الهدف الرئيس للمنظمة والمنظمة السابقة عليها التي كانت تحمل اسم "الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة" (جات) وصل إلى طريق مسدود منذ أكثر من عشرة أعوام عندما فشلت جولة لتحرير التجارة العالمية بسبب الخلاف بين الدول الأعضاء حول تجارة الخدمات والمنتجات الزراعية. ويمكن القول، إن اتفاقيات التجارة الحرة التي تم توقيعها منذ ذلك الوقت ليست أكثر من اتفاقيات للمعاملة التفضيلية التي تؤدي إلى تقييد حرية التجارة أكثر مما تؤدي إلى زيادة انفتاحها. ويتم التعامل مع أكبر الاتفاقيات الإقليمية للتجارة الحرة التي جرى التفاوض بشأنها خلال الأعوام العشرة الماضية، وهي اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ ثم الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، باعتبارها جبهات لصراع القوى الناعمة بين الصين والولايات المتحدة أكثر من كونها أداة للمساهمة في تحرير التجارة. هذا التنافس بين الولايات المتحدة والصين ألقى بظلاله الكثيفة في العام الماضي على "هيئة الاستئناف" التابعة لمنظمة التجارة العالمية التي تقوم بأهم وظائف المنظمة المتبقية بعد انهيار إحدى جولاتها. الهيئة ذات التشكيل القضائي التي تتولى الفصل في النزاعات التجارية بين الدول الأعضاء، حلت إحدى أهم المشكلات التي واجهت منظمة "جات" السابقة وهي العجز عن إلزام القوى الاقتصادية الكبرى بقراراتها. ولكن مع ظهور الصين قوة تصدير عالمية، ومع تعيين المناهض لمنظمة التجارة العالمية روبرت لايتزر ممثلا تجاريا للولايات المتحدة، كان تفكيك هيئة الاستئناف في العام الماضي أمرا محتوما، وهو ما حدث بالفعل حيث أصيبت الهيئة بالشلل نتيجة رفض الولايات المتحدة تعيين قضاة جدد فيها يحلون محل القضاة الذين انتهت ولايتهم. والآن تواجه التجارة العالمية مخاطر لم تواجهها منذ أعوام الحرب الباردة في القرن الـ20، لإنه على المدى القصير، أصابت جائحة كورونا التجارة العالمية بالشلل تقريبا، وسط توقعات من المنظمة بتراجع حركة التجارة خلال العام الحالي بما يصل إلى 32 في المائة. وفي حين كان حجم تجارة السلع بين دول العالم يزداد بشكل مطرد عند التغاضي عن التقلبات من شهر إلى آخر، فإنه شهد تراجعا على مدى نحو عام متصل حتى قبل تفشي الجائحة. والاتفاق التجاري بين الولايات المتحدة والصين الذي تم الإعلان عنه بكثير من الضجيج في كانون الثاني (يناير) الماضي لا يساوي الحبر الذي كتب به بحسب فيكلنج، ولا سيما بعد أن هدد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بالتراجع عن هذا الاتفاق، في الوقت الذي يتهم فيه الصين بالمسؤولية عن تفشي فيروس كورونا في العالم. ورغم أن المشهد الراهن يبدو قاتما للغاية، فإن مسار تحرير التجارة لم يكن سهلا أبدا، حيث ولدت منظمة جات على أطلال منظمة التجارة الدولية التي بلورها جون مينارد كينيز منظمة عالمية تستهدف القضاء على العجز والفائض التجاري في العلاقات بين الدول. وجاءت منظمة التجارة العالمية نفسها لعلاج انحرافات "جات" التي أصبحت غير ذات جدوى في الثمانينيات، عندما ساعد محام أمريكي شاب يدعى روبرت لايتزر في جولة سابقة من الدبلوماسية التجارية القوية بين الولايات المتحدة واليابان. وتشكك البعض عندما شهدت اجتماعات منظمة التجارة العالمية في مدينة سياتل الأمريكية 1999 موجة احتجاجات قوية من جانب مناهضي العولمة، تشكك في أن يؤدي انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في أواخر القرن الماضي إلى أغنى فترات التجارة العالمية. ورغم ذلك، ما زال هناك ما يدعو إلى الأمل في أن تجد التجارة العالمية طريقا لتجاوز مشكلاتها الحالية، رغم الظلام الشديد الذي يحيط بها حاليا، فالفكرة السائدة بأن تحرير التجارة يساعد فقط الأغنياء فكرة مبررة.
مشاركة :