قدم برنامج “قلبي اطمأن” مثالا مفيدا عن تضافر المادة الإعلامية الرصينة مع البعد الإنساني في سياسات الدول، فحقق نجاحا يليق بخصوصياته الفنية والإنسانية، لكن الإجماع العربي على نجاح البرنامج لم يحل دون وجود أصوات ومنصات إخوانية لم تهضم ارتباط البرنامج بدولة الإمارات العربية المتحدة، فسددت له سهام الانتقاد والتأثيم. “كالغیث كن أملا وُجد من دون مقياس سقیا الجمال تبثها لتطيب أنفاس. طمئن قلوب الناس أن الناس للناس. كالغيث كن سببا لتحیي قلب إنسان. جدْ بالذي تحسنه مهما كان مهما كان، أو لیس یجزى محسن إلا بإحسان، قلبي اطمأن فكلنا كالغیث للغیر، مازالت الدنيا بخير”، بهذه الكلمات تغنى حسين الجسمي في مقدمة برنامج “قلبي اطمأن” الذي يُعرض خلال رمضان الجاري للموسم الثالث على تلفزيون أبوظبي، ليحصد المزيد من النجاح، ويثير المزيد من الجدل، نظرا لخصوصيته التي يتميز بها، وهي تقديمه من قبل شاب يتجول في البلدان، ليساعد الفقراء والمحتاجين. فتح أبواب الأمل فكرة البرنامج تتمحور حول شاب إماراتي عابر سبيل، يسافر إلى مدن أو قرى في دول عدة، باحثا عن حالات بعينها تم الإعداد سلفا لمساعدتها دون علمها من خلال شبكة علاقات إنسانية واسعة، فيفاجئها بالتقدم إليها بحل مشاكلها المالية أو الطبية أو غيرها، فاتحا بذلك أبواب الأمل أمام أناس اعتقدوا أن الحياة بخلت عليهم، ومناهل العطاء والرجاء جفت في وجوههم، وأن الإنسانية نسيتهم أو تناستهم قبل أن تشرق عليهم شمس المحبة بالمساعدة التي يحتاجون إليها. أهم قيمة عمل البرنامج على تكريسها هي أن فاعل الخير يمكن أن يقوم بدوره الإنساني دون صخب أو استعراض لنفسه، فالشاب غيث لا تزال الكاميرا تصرّ على ملاحقته من وراء، ودون إبراز لملامح وجهه، ولتزداد أهمية الرسالة لم يحدث أن ظهر ذلك الشاب في مقابلة تلفزيونية للكشف عن هويته، كما لم تنشر الصحف والمجلات أي حوار معه، ولم تظهر صوره على مواقع التواصل الاجتماعي، ليبقى أقرب إلى شخصية الملاك المنقذ أو المساعد دون أن يتمكن أي كان من اكتشاف ملامحه. كثرة التساؤلات عن تعمد غيث إخفاء وجهه، عبّر عنها رجل عراقي في إحدى حلقات الموسم الحالي، بالقول “يقولون إنك لا تترك أحدا يرى وجهك”، ليرد عليه “لكن أنت رأيته…”، مشيرا إلى أن “الخير لا يلزم أن يكون له وجه، يمكن أن يكون إنسانا فقط، ويمكن أن يكون مبدأ”، مردفا “إذا كشفتُ وجهي ضاعت الفكرة، غيث ليس شخصا، هو كل واحد منا”. برنامج "قلبي اطمأن" مثل حالة إنسانية استثنائية في شهر رمضان، وأعطى درسا في إمكانية تحويل التلفزيون إلى أداة للتواصل الإنساني في 13 مايو 2018، انطلق البرنامج ليعرض على شبكة التواصل الاجتماعي وقنوات أبوظبي ونور دبي و”أم.بي.سي 1”، وبعد النجاح الكبير الذي حققه، تواصل إنتاجه في شهر رمضان خلال العامين 2019 و2020 مع موسم قصير متميز تضمن 8 حلقات وعرض في نوفمبر 2019، يعرف تلفزيون أبوظبي البرنامج على إنه “رحلة ملؤها الخير والعطاء نعيشها مع غيث الذي يجوب العالم للبحث عن أناس ضاقت بهم الأرض، فيتقدم لمساعدتهم وتغيير حياتهم نحو الأفضل وإدخال الفرحة إلى قلوبهم”. يشرف الهلال الأحمر الإماراتي على رعاية البرنامج ضمن خطته لمساعدة الفقراء والمحتاجين ومد يد العون للأرامل والمرضى وكفالة الأيتام، وتوفير الحاجيات الضرورية كالسكن ومورد الرزق وفرصة التداوي لمن ضنّت عليهم الحياة، أو غدرت بهم الظروف أو انغمست عليهم الأزمات في أوطانهم بالفقر والآلام. وخلال الموسم الحالي من البرنامج، قرر القائمون عليه توسيع دائرة الخير بإطلاق مبادرة كفالة 10 آلاف يتيم، التي يقف وراءها الهلال الأحمر الإماراتي ومبادرة زراعة مليون شجرة ومبادرة إيصال الماء إلى مليون مستفيد ومبادرة توفير 1000 مورد رزق. وقد كان لافتا أن البرنامج نجح في أول مبادرة أطلقها خلال شهر رمضان المبارك، لهذا العام بكفالة 10 آلاف يتيم من 10 دول خلال 5 أيام فقط، بعد الإعلان عن كفالة 1000 يتيم من الأردن في ثاني أيام الشهر الفضيل، وكانت المبادرة قد امتدت إلى دول عدة أبرزها الأردن ولبنان والعراق ومصر والفلبين والبوسنة والهند وسيريلانكا وطاجيكستان وكازاخستان. ويرى المراقبون أن نجاح البرنامج في نيل ثقة أصحاب الخير، دفع بهم إلى تكثيف مساهماتهم في تنفيذ برامجه الخيرية والإنسانية، فالمذيع الإماراتي الشهير علي الكعبي قال عبر حسابه الرسمي على تويتر عن البرنامج “بلا منازع هذا البرنامج يكتسح نسبة المشاهدة كلما حّل شهر رمضان، عمل الخير لا يُجارى فكيف إذا كان فاعله مغطى الوجه وهدفه إنساني نبيل؟”. وفي الصومال نشر المهندس فهد علي حسن ثلاثة منشورات في تواريخ مختلفة عن البرنامج عبر حسابه على فيسبوك، وقال في أحد المنشورات التي كانت مكتوبة باللغة الصومالية “برنامج ‘قلبي اطمأنّ’ الذي يقدمه المدعوّ غيث الإماراتي يذرف دموعي للمرة الثانية في رمضان هذا العام، اللهم يا مغيث أغثْ المحتاجين”. العشرات من القصص المثيرة والمؤثرة عرضها البرنامج من دول عربية وأجنبية، جمع بينها رابط إنساني عميق وإحساس متدفق بمعاناة الناس وقدرة على تحويل تلك القصص إلى دروس ومواعظ وعبر في اتجاه التجاوز نحو الأمل والتفاؤل والطاقة الإيجابية، والتأكيد على أن التضامن والتكافل والمحبة والتسامح ليست مجرد شعارات ترفع، وإنما هي قيم جديرة بالتجسيد على أرض الواقع. الجدل السياسي خير يزعج الإسلاميين خير يزعج الإسلاميين لكن النجاح منقطع النظير للبرنامج، يبدو أنه أزعج أبواق قطر ومنصات الإخوان من التي تعودت على التشكيك في كل ما هو جميل وأصيل ونبيل، وخصوصا عندما يأتي من الإمارات أو من أي بلد مناهض لمشروع الإسلام السياسي ولمؤامراته الخفية والمعلنة ضد الدول العربية، وهو ما تؤكده المواقف المتحاملة على فكرة البرنامج ودوره في نشر الخير ومساعدة المحتاجين. فأبواق قطر ومنصات الإخوان الدعائية عملت على أن تحيدَ بالبرنامج من طبيعته الخيرية والإنسانية إلى دائرة الجدل السياسي في محاولات بائسة للمساس من هالة الضياء القيمي التي أشعت منه وأحاطت به، وذلك بالاعتماد على أدوات التضليل في تقويم الدور الإماراتي المناقض تماما لدور التحالف التركي القطري الإخواني الذي بات معروفا لدى الجميع أن يستغل اليافطة الخيرية والإنسانية ليمارس من تحتها دعم الإرهاب والتطرف والجماعات الخارجة عن القانون، ويضع الولاء لمشروعه التخريبي في صدارة شروطه لمساعدة الفقراء والمحتاجين ومن ضاقت بهم السبل. وفي هذا السياق، قال الكاتب الصومالي أنور ميو في منشور عبر حسابه على فيسبوك “أولا: أنا ضد من ينتقد البرنامج لغرض سياسي مرتبط بهوية المساعد غيث… فالبرنامج إنساني بحت، ويبحث عن أشخاص في دول متضررة بالحرب أو فيها بؤس وفقر مثل اليمن وسوريا والعراق والسودان والمغرب العربي ومصر والأردن”. وقال الناشط عبدالله عبدالغني عيديد “برنامج ‘قلبي اطمأن’ برنامج يحرك المشاعر ويسعد الفقراء”. ويقول الناشط علي طاهر عبده نقلا عن شارماركي وعيس “غيث الإماراتي مقدم برنامج ‘قلبي اطمأن’ شمّر عن ساعده لإسعاد الكثير من المحتاجين الذين كان يتابع قصصهم”. أما موقف الممثل السعودي ناصر القصبي الذي استغلته بعض الأطراف لمحاولة تشويه البرنامج، فلم يكن مسيئا كما يعتقد البعض خصوصا وأنه أكد “البرنامج الإماراتي ‘قلبي اطمأنّ’ حقق نتائج طيبة في المواسم السابقة لفكرته الإنسانية النبيلة، ولا شك أن صناع هذا البرنامج مشكورين قد قدموا مساعدات عظيمة للبسطاء في كل مكان”، لكنه رأى أن كرامة بعض الشخصيات التي تمثل رمزية ثقافية أو اجتماعية في مجتمعاتها قد تأبى عليها الظهور في صورة من يبحث عن مساعدة إنسانية كما حصل في حالة الممثل اللبناني الكبير صلاح تيزاني المعروف بشخصية “أبوسليم” الذي تحدث بكثير من التأثر عن وضعه الاجتماعي والمعيشي الصعب، مشيرا إلى أنّه لا يمتلك ضمانا صحيا، فقرّر غيث أن يعيد الابتسامة والأمل إلى وجهه، وقدّم له ضمانا صحيا بالإضافة إلى راتب لمدة سنتين، كما أشار إلى أن التكريم الذي طلبه الفنان اللبناني سيصله لاحقا، مع تأمين علاج زوجته المريضة، وجراحة لصديقه الممثل اللبناني فؤاد حسن، المعروف بـ”زغلول” أحد أعضاء فرقته الفنية. التلفزيون أداة للتفاعل بعض من حاولوا الركوب على تغريدة القصبي، لم يدركوا أنها جاءت من فرط غيرته كفنان على زملائه الفنانين، في ظل إشادة منه بالبرنامج وفكرته ودوره الإنساني، لكن من ناحية ثانية يرى بعض المتابعين أن الشاب الإماراتي كشف من خلال حلقة أبوسليم عن حقيقة تكاد تكون غائبة عن أصحاب القرار في العالم العربي، وهي وضعية الفنانين الذين يعطون الجانب الأكبر من حيواتهم وجهودهم لخدمة مجتمعاتهم وإسعاد شعوبهم، قبل أن يكتشفوا عندما تتقدم بهم السن أنهم من دون غطاء صحي أو ضمان اجتماعي أو رصيد مالي يحميهم من غدر الزمان ومن تنكر الساحة الفنية والثقافية وتجاهل الدولة لمعاناتهم. اليوم هناك إجماع على أن برنامج “قلبي اطمأن” مثل حالة إنسانية استثنائية في شهر رمضان، وأعطى درسا في إمكانية تحويل التلفزيون إلى أداة للتواصل الإنساني وللتفاعل الإيجابي مع فئات مهمة من البشر، ولبث الأمل وإعادة الابتسامة للآلاف من الناس من خلال البعد الخيري والإنساني للقوة الناعمة، وهو ما نجحت فيه دولة الإمارات سواء من خلال هذا البرنامج أو من خلال غيره من المبادرات التي تريد لها أن تكون شعاع ضوء يعبر الحدود ليمد حبال العطاء على أبواب رجاء من لا سند لهم قبل أن يتفاجأوا بأن الدنيا لا تزال بخير.
مشاركة :