ما يزال البعض يعتقد أن تعبير “التفكير الأعوج” مجرّد شتيمة، أو صيغة انفعالية تنعت طرقا متعرجة من التحليل. غير أن الوصف جادٌ كل الجّد، وهو اصطلاح علمي، لعلّه بات قديما. لكننا في الشرق نعيش أساسا في إحداثيات زمن قديم، وبالتالي فكل جديد عندنا يبقى متأخر الوصول. تخيّل أن يبتدع أحد مصطلحا في العام 1930 في كتاب قيّم، ونترجمه نحن إلى ثقافتنا ولغتنا بعد 49 سنة، بمبادرة من سلسلة “عالم المعرفة” حين نشرت كتاب روبرت هـ. ثاولس الذي يتناول المخّ وأفكاره التي تتفرع إلى نمطين؛ تفكير إيجابي وتفكير سلبي. وكيف يسيطر كل منهما على الإنسان. لكن ومع ذلك، ومع أن الثانية والدقيقة لهما حساب حسّاس في مسار تطوّر البشر، فإن العقل الأعوج لم يعتدل، وما يزال مصرّا على الاعوجاج. وكيف يريدنا أن نراه مستويا إن لم يقلع عن اللف والدوران في مختلف ظواهره؟ لا يمكنك أن تحلّ المسألة إن لم تسر في معطياتها إلى الأمام، ولا يمكنك فتح الباب إن لم تمسك بالأكرة، وإلا بتّ تناطح الواقع وحقائقه. وحين اشتهر هذا الكتاب، أذكر أن من تلقفه من صحبنا كان فرحا منتشيا، لا بما يمكن أن يدلّه عليه من استقامة التفكير، بل باكتشاف الحيل لتتعلّم كيف يمكن لتفكيرك أن يكون معوجّا أكثر! ويا لسعادتنا بأن يستنتج طالب القانون من دراسة جرائم السرقة كيف يمكنه أن يكون لصّا محترفا. كان من أخطر ما أشار إليه ثاولس سوء استعمال التفكير النظري في حل المشكلات التي تتطلب انخراطا في الحياة عيانيا وميدانيا، فيصبح الكائن الإنسان عندئذ مجرد ببغاء منفصل عن الواقع، مولع بالكلمات التي لا معنى لها، دون أن يؤسس خطابه على الأرض الصلبة. والأخطر إن أنت أعطيتَ هذا الإنسان “ميكروفونا” أو منبرا للتأثير، حينها ستنتقل العدوى إلى الملايين من البشر من ذوي التفكير المبسّط الذي يلائمه ذلك الخطاب، مستخدما القياس كقاعدة لكل فكرة بدلا من تحليلها وتنشيط العقل في تناولها، وإن كان القياس يصلح لكل زمن حينها سيُسَدّ باب الاجتهاد والابتكار والتجديد ونصبح سلفيين من نوع آخر. فالسلفية غير مقتصرة على المتدينين، هناك سلفية علمية وصناعية وفنية واقتصادية وزراعية وتربوية وأخرى أدبية وبالطبع سياسية. ولا يستخفنّ أحدٌ بالتأثير السحري للنطق بهذه العبارة “السلف الصالح”، وكم هي مريحة للعقل الكسول الذي يرمي بكل شيء على عاتق الغابرين. تفكير منحن لا يقل خطورة عن سهم مقوَّس تطلقه من كنانتك، لن يصيب أحدا في مقتل سواك.
مشاركة :