مقولة «مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ» تنطبق هذه الأيام على ميانمار (بورما سابقًا). وبعبارة أخرى فإن مصيبة الشعب البورمي جراء انتشار وباء «كوفيد ــ 19» في صفوفه صارت بمثابة فائدة لجنرالاته القمعيين. فهؤلاء الذين تراجع دورهم وفقدوا الكثير مما كانوا يتمتعون به على مدى عقود من سطوة وهيمنة على الأمة ومقدراتها يبدو أنهم اليوم يتأهبون لاسترجاع الدور الذي فقدوه لصالح حركة المعارضة المدنية الديمقراطية بقيادة السيدة «أونغ سان سوشي». فمن بعد أسابيع من النفي الرسمي عن انتشار وباء كورونا في البلاد، أقرت السلطة العسكرية في مطلع مايو الجاري بوجود 161 حالة إصابة فحسب مع وفاة ستة أشخاص فقط. وبطبيعة الحال، فإنه لا يمكن الوثوق تمامًا بهذه المعلومات، ليس لأنها رسمية ويشوبها التعتيم بهدف المحافظة على صورة النظام، وإنما لسبب آخر هو أن إجمالي من تمّ فحصهم لا يتعدى عددهم المئات (من أصل عدد السكان البالغ 51 مليونًا بحسب تقديرات سنة 2005)، دعك من ضعف البنية التحية الخاصة بمواجهة الكوارث الصحية وإفتقارها الشديد للكوادر الطبية المتخصصة، ودعك أيضًا من حقيقة اشتراكها في حدود جغرافية طويلة مع 3 دول تفشى فيها الوباء وهي الصين (2200 كلم) وتايلاند (2400 كلم) والهند (1600 كلم). ولعل أحد مظاهر عودة الصراع بين جنرالات ماينمار وغريمتهم سان سوشي التي تدير الحكومة المنتخبة فعليا على خلفية كارثة كورونا هو أن الأخيرة شكلت في منتصف مارس المنصرم لجنة برئاستها مكونة من 21 عضوًا من أجل إدارة الأزمة، بينما قام العسكر في نهاية مارس بتشكيل لجنة أخرى موازية من عشرة أعضاء لم تتمثل فيها سان سوشي أو أي من أنصارها ومحازبيها المدنيين كوزير الصحة مثلاً. في مبررات وأهداف اللجنة الأخيرة أعلن العسكر أنها خاصة بمتابعة تطورات الأمور المرتبطة بالوباء، وتعقب أثر المصابين به ومن اختلط بهم، ومحاسبة كل أولئك الذين يروجون للأخبار والشائعات الكاذبة من تلك التي قد تثير الذعر في البلاد وفي صفوف السكان. وكان اللافت في اللجنة المشكلة من قبل العسكر أن رئاستها أسندت إلى النائب الأول لرئيس البلاد «مينت شوي» وهو جنرال سابق معروف بسجله المشين في اعتقال وقمع المعارضين بما في ذلك دوره الوحشي في ضرب إنتفاضة العام 2007 التي قادها الكهنة البوذيون ضد النظام العسكري، وعــُرفت بالثورة الزعفرانية. كما كان لافتًا أيضًا منح عضوية اللجنة للجنرالات الثلاثة الذين فـُرض توزيرهم على سان سوشي في حكومتها المدنية مثل وزراء الدفاع والداخلية وشؤون الحدود، ناهيك عن رئيس هيئة الأركان الليفتينانت جنرال «ميا تون أوو»، وهو من كبار العسكر الذين يديرون شؤون البلاد من خلف الكواليس. ومما قيل على لسان العديد من مراقبي شؤون هذه البلاد أن تجنب قيام العسكر حتى الآن بفرض حالة الطواريء في ميانمار، لا يعني أنهم لا يطمحون لاستعادة دورهم القيادي الشمولي السابق. فاللجنة التي تم تشكليها، وحقيقة أن الهيمنة فيها لجنرالات أقوياء سابقين يعني أن العسكر قد عادوا لإدارة شؤون البلاد مباشرة، ولم يعدوا مجرد قوة تمارس السلطة من خلف ظهر حكومة سان سوشي أو بالتعاون معها. ومما قيل أيضًا إن وباء كورونا جاء كهدية من السماء لجنرالات ميانمار كي يعززوا دورهم وسلطاتهم في مواجهة حزب الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية بزعامة سان سوشي، خصوصًا وأن الأخيرة أفصحت عن نيتها ــ قبل انتشار وباء كورونا في العالم ببضعة أسابيع ــ في إجراء تصويت لتعديل دستور 2008 الذي من ضمن بنوده بندًا يضمن للعسكر ربع مقاعد البرلمان بالتعيين. وهذا البند، الذي يقيد حرية سان سوشي وأنصارها لجهة تمرير التشريعات والقوانين المطلوبة، يصوره العسكر كبند ضروري لتأمين الاستقرار الوطني. ليس هذا فقط كل ما أهداه الوباء الصيني لعسكر ميانمار، وإنما أيضًا هدية أخرى عزيزة على قلوبهم، تمثلت في منحهم الفرصة مجددًا لممارسة كتم الأفواه وتقييد حرية التعبير والحركة. فبحجة السلامة الوطنية وتجنيب البلاد إصابات المرض وحالات الوفاة، لوحظ تعقب السلطات العسكرية والأمنية لنشطاء وسائل التواصل الاجتماعي ورموز الإعلام المستقل ممن كانوا يعملون في الماضي من خارج البلاد وعادوا إليها مع بدء عملية الانفتاح والمصالحة الوطنية سنة 2012. ولم تشمل عملية التعقب والتوقيف هذه مروجي الإشاعات فقط وإنما كانت فرصة أيضا لقمع رموز وأنصار جيش أراكان، وهي جماعة مسلحة من الروهينغا المسلمين ناشطة في أدغال ولاية راخين الشمالية. وطالما أتينا على ذكر «أراكان»، فإن الجهات الحقوقية الدولية حذرت ميانمار من خطر تفشي وباء كورونا بين مسلميها الموجودين داخل معسكرات تعاني من ضيق المساحة والاكتظاظ وغياب معايير النظافة وقلة دورات المياه وغير ذلك من الأمور التي تسهل انتشار الفيروس المميت وتصعب من عملية السيطرة عليه.
مشاركة :