استطاعت الآلاف من الأسر المصرية العبور من نفق كورونا المظلم بأقل قدر من الخسائر، في ظل قدرتها على التأقلم وتغيير أنشطتها لطرق أبواب رزق جديدة، جعلتها لا تعتمد على مخزون ينفد عاجلا أو آجلا وسط جائحة لا يبدو أنها ستزول قريبا. القاهرة - لم يكن قرار الصحافي المصري نيازي مصطفى، فتح متجر لبيع المواد المنظفة يسيرا في حي طرة بجنوب القاهرة، بعدما أثر فايروس كورونا على عمله كمحرر رياضي وانكمش دخله إلى مكافأة ضئيلة تقدر بـ200 جنيه شهريا (نحو 12.5 دولار)، فيما هو مسؤول عن أسرة تضم ولدين وزوجة. وأكد مصطفى لـ”العرب”، أن مسؤوليته كربّ أسرة، أكبر أبنائها في سن الالتحاق بالمدرسة، جعلته يفكر في بدائل تضمن الاستقرار المادي والنفسي للأسرة. وفكر الصحافي المصري في متجر المنظفات تماشياً مع الأزمة على اعتبار أنها رفعت عناية الأسر بالنظافة، فتوقع تحقيق ربح جيد من المشروع، حتى وهو لا يملك خبرة سابقة فيه، وهو واحد من كثيرين فكروا بالطريقة نفسها واتجهوا إلى المتاجرة في الكمامات والمطهرات. ولجأ مصطفى إلى صديق علمه إعداد المنظفات، ورغم صعوبة التحول من صحافي يتعامل مع الأندية والرياضيين إلى بائع يتعامل بشكل أساسي مع ربات المنازل، استطاع أن يتأقلم، وكان لزوجته دور في الترويج لمشروعه بين صديقاتها. وأظهر نوعا من الرضاء عن التجربة، وتعمقت ثقته في ذاته وقدرته على التعاطي مع مسؤولياته كرب أسرة، بعدما انعكس تحسن الأوضاع المالية على حالته النفسية، وفتح أبواب دخل إضافية، فبعد استئناف نشاطه كصحافي رياضي لن يغلق المشروع الجديد. ولم يكن التحول سلسا على النحو ذاته مع الصحافي محمد خميس (اسم مستعار) الذي اتجه إلى العمل كمندوب لبيع الأدوية والسماد الزراعي في إحدى قرى الجيزة القريبة من القاهرة، في ظل معارضة زوجته، وهي صحافية أيضاً، خوفاً على وجاهة الأسرة الاجتماعية. خميس مسؤول عن زوجة ونجل دون العام وعن والدته وأشقائه، ما جعل التفكير في بدائل أمرا حتميا وليس رفاهية، فتحمل مقاومة زوجته للفكرة، وبعد فترة رضخت للأمر الواقع، بعد أن استطاع تحقيق نتائج جيدة في عمله الجديد، ولم تنقطع صلته بالصحافة. وواجهت الكثير من الأسر ما هو أصعب، حيث انقطعت مصادر الرزق تماماً، وباتت أمام خيارين، إما الاعتماد على مدخرات تنقص يوما بعد آخر أو تقبل الأمر الواقع والتأقلم معه. التأقلم مع الأوضاع التي فرضتها جائحة كورونا بالتحول إلى أعمال أخرى يرتبط بالأسرة من حيث تماسك أفرادها ومر شهر فقط على افتتاح هشام محمود ناديه الخاص لألعاب الفيديو في منطقة شبرا (شمال العاصمة)، قبل أن يُغلق بقرار حكومي ضمن إجراءات مواجهة الفايروس. التزامات مادية كبيرة جراء سداد أموال المشروع، ورعاية أسرة تتكون من 3 أبناء وزوجة حامل، جعلت رب الأسرة أمام مأزق حقيقي زاد أجواء التوتر والقلق والعصبية والأزمات الأسرية، قبل أن يقرر المقاومة بشراء “توكتوك” للعمل عليه مؤقتا. وتروي الزوجة لـ”العرب” وقائع أول يوم في عمل زوجها الجديد، حيث عاد وقد اصطدم بأحد الأرصفة، وتشاجر مع سائقين، “الآن الوضع أفضل، صحيح أحوالنا المادية لم تعد لسابق عهدها لكن على الأقل نكفي أنفسنا ونستطيع المقاومة، ونأمل أن يستأنف نادي الألعاب عمله قريباً، وقتها نؤجر التوكتوك، ويصبح لدينا مصدرا دخل”. وقالت أستاذة علم الاجتماع في جامعة عين شمس، هالة منصور، لـ”العرب”، إن التأقلم مع الأوضاع التي فرضتها جائحة كورونا في التحول إلى أعمال أخرى يرتبط بالمنظومة الأسرية وتماسكها ومنهجية الحوار وكسب التأييد. وأضافت “القرار ربما لا يجد تأييداً في البداية من كافة أعضاء الأسرة، ما يجعل منهجية الحوار وشرح طبيعة الموقف وملابساته ضرورية لضمان سلاسة التحول”. وأشارت أستاذة على الاجتماع إلى أن نجاح منهجية الحوار والإقناع واعتمادها داخل الأسرة كسبيل لتعديل الأفكار من شأنها ترسيخ ذلك في كافة الأزمات التي ستواجهها في ما بعد، في المقابل فإن مقاومة أفراد الأسرة للعمل الجديد تعني المزيد من الإحباطات. وتوقعت منصور ألا تعود الكثير من الأسر إلى أنشطتها القديمة بعد انتهاء الجائحة، أو على الأقل عدم غلق الأنشطة الجديدة التي فتحتها، فالأزمة مثلت منحة لبعض الأسر ممّن دعمت العلاقات والتعاون بين أفرادها وأكسبتهم خبرات ومجالات عمل جديدة. وتقدم تجربة مروة محمود (30 عاما) دليلاً على كيفية تحويل كورونا من محنة إلى منحة، حيث شجعت الجائحة الشابة وهي أم لطفلين، على أن تبدأ مشروعها الذي طالما حلمت به، المنبثق من هوايتها الكبيرة للطبخ. وأوضحت مروة لـ”العرب”، أنها فشلت في العودة إلى عملها كمنسقة علاقات عامة في إحدى الجمعيات الثقافية بعد أزمة كورونا وتوقف كافة الأنشطة، في الوقت الذي اضطربت فيه أوضاع زوجها المادية، وتأخر راتبه لشهور، ما وضعها في مأزق. وفكرت في بدء مشروعها على نحو جدي، بعد محاولات قصيرة سابقة لم تدم، والمشروع إعداد مأكولات منزلية وتوصيلها لطالبيها، ما يرضي شغفها بالطبخ الذي تجيده ويوفر دخلا للأسرة. وعرضت مروة المشروع على زوجها فعارض في البداية، لكنها استطاعت أن تقنعه وبدأت المشروع. ولم تكسب أزمة كورونا الآلاف من الأسر قابلية للتأقلم مع الأزمات فقط، بل مدت عازبين بخبرة يُتوقع انعكاسها على تجاربهم الأسرية في ما بعد. وإحدى هؤلاء المغنية الشابة هبة سليمان، والتي توقف عملها بسبب كورونا، فقررت العمل كمندوبة مبيعات، قائلة لـ”العرب”، “لم أحظ بتجربة أسرية داعمة، فوالدتي توفيت منذ زمن، ووالدي تزوج أخرى وحملني مسؤولية الإنفاق على نفسي، لذا اعتدت العمل منذ صغري، بعد كورونا اضطررت إلى العمل مندوبة مبيعات للحصول على ما يكفيني دون الحاجة لأحد، التجربة جعلتني أكثر ثقة في ذاتي”.
مشاركة :