د. جمال خالد الفاضي يكتب: تداعيات كورونا لن تكون مختلفة هذه المرة

  • 6/15/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يقول “فرانسيس فوكوياما”، إن حركة التاريخ شهدت العديد من الأزمات الكبرى والتي بموجبها أفرزت نتائج لها عواقب وخيمة، وعادة ما تكون غير متوقعة، فالكساد الكبير الذي شهده العالم عام 1929 ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، حفز ظهور الانعزالية والقومية والفاشية والحرب العالمية الثانية، لكنه بالمقابل أدى أيضًا إلى إعادة تشكيل النظام العالمي وهيمنة الرأسمالية، وصعود الولايات المتحدة كقوة عظمى عالمية، وإنتهاء عصر الاستعمار. وفي عقد التسعينات من القرن الـــ20، وعلى إثر إنهيار المنظومة الإشتراكية بقيادة الاتحاد السوفيتي، شهد العالم هيمنة مطلقة للولايات المتحدة والنظام الرأسمالي الليبرالي وترسيخ مبدأ العولمة بكل أشكالها على نسق العلاقات الدولية، وكذلك تم تمديد الاتحاد الأوروبي شرقاً وإعادة توحيد ألمانيا الاتحادية.ومع بدايات القرن الــ 21، وعلى إثر هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، وفي تجاوز لمنظومة الأمم المتحدة كأحد أهم إفرازات نتائج الحرب العالمية الثانية للحفاظ على الأمن والسلم العالميين، قامت الولايات المتحدة باحتلال بلدين هما العراق وأفغانستان، يرى فيهما “فوكو ياما” بتدخلين أمريكيين فاشلين، أديا إلى صعود إيران، وتمديد نفوذها العابر للحدود وبروز أشكال جديدة من التطرف الإسلامي. ومع ظهورالأزمة المالية لعام 2008 أو ما سميت بأزمة العقارات في الولايات المتحدة، وإنتشارها عالمياً، وقد وصفت بأسوأ كارثة منذ الكساد الكبير، وقد أدى إلى ما يعرف بالركود الكبير، حيث فقدَ أكثر من ثمانية ملايين أمريكي وظائفهم، وتم تدمير ما يقرب من (2.5) مليون فرصة عمل، وتم حجز ما يقرب من أربعة ملايين منزل في أقل من عامين، بالإضافة لحالة من انعدام الأمن الغذائي وعدم المساواة في الدخل، وفقدان العديد من الأمريكيين الثقة بإدارة الرئيس “أوباما”، وإثر ذلك لم يستطع الاقتصاد استرداد عافيته إلى مستويات ما قبل الأزمة إلا في عام 2016. ولم تقتصر هذه الأزمة على التداعيات الاقتصادية بل امتدت حضوراً وتأثيراً وذلك بوصول الأحزاب الشعبوية الأوروبية للحكم، وقد شكل وصول “ترمب” لكرسي رئاسة الولايات المتحدة وهو الرجل المحسوب على التيار الشعبوي في الولايات المتحدة والبدء بالعمل على مبدأ ” أمريكا أولاً” أحد أهم الأحداث التي كانت لها تداعيات على المنظومة الدولية. وعلى الصعيد الصحي وفي عام 2020، ظهر وباء سريع الإنتشار، ضرب بموجبه كل أنواع البروتوكولات المعمول بها، وتراجعت الدول خطوة للوراء وإنكفأت على ذاتها في سابقة حتماً سيكون لها تداعيات عاجلاً أم أجلاً على منظومة العلاقات الدولية. ففي تاريخها الطويل، واجهت البشرية في محطات من تاريخها الطويل أوبئة وأزمات صحية بعضها أكثر فتكا من فيروس كورونا، وتمكنت في نهاية المطاف من صدها والتغلب عليها وعلى آثارها الصحية والاجتماعية والاقتصادية، وبمجرد أن يتمكن العالم من محاصرة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) والقضاء عليه، وبعد استعراض الثمن البشري الباهظ لهذا الفايروس، سيفتح المؤرخون المستقبليون الطريق واسعًا أمام جرد التكلفة المالية والاقتصادية والاجتماعية والندوب العميقة التي تركها هذا الوباء. وسيكون لهذا الوباء الأكثر فتكاً في العصر الحديث، آثار مفتوحة، ويبدو أنه سيبدد قدرة الاقتصاد على الصمود في مواجهة إغلاق لم تشهده البشرية من قبل، فتقارير البنك الدولي تتحدث عن انكماش يقدر بنسبة (5.2%) للاقتصاد العالمي نتيجة ارتفاع معدلات البطالة ووقف التشغيل أو ما يمكن تسميته بالانغلاق الكبير للاقتصاد العالمي والتباعد الاجتماعي التلقائي من جانب المنتجين والمستهلكين، وما صاحب ذلك من تقلبات في الأسواق العالمية، وتراجعات حادة لأسعار الطاقة والنفط، ورغم حالة الألم والقلق والإرهاق التي نتجت عن فايروس كورونا، إلا أن آملاً حاضراً ويقيناً عميقاً أن طريق المستقبل سيكون أكثر إشراقاً، وحينما تنتهي هذه الجائحة وفايروسهها الذي أشبع البشرية قهراً، سيكون من الضروري العمل على أن حركة التاريخ مستمرة، وأنه من الممكن أن تتكرر أحداثها المأساوية، وهذا يتطلب العمل على تقوية آليات التأهب والوقاية ، وأن تكون درجة الاستجابة للأوبئة أعلى، وأن أولوية رسم السياسات العالمية المتعلقة بقطاع الصحة يجب أن تحتل حيزاً كبيراً في النقاش العالمي. لا شك، أن الانكفاء الذي مارسته الدول أو سياسة الانعزال وما يدور من نقاش حول جدوى العولمة، والجدل الحاد بين الولايات المتحدة والصين حول مصدر الفيروس وقضايا أخرى، وما قد يبرزمن حراك لعودة القومية، واستغلال الديماغوجيين الشعبويين للمعاناة التي انتجها فيروس كورونا، ستشكل حالة من القلق والاضطراب، إلا أن الوباء قد ألقى ضوءًا ساطعًا على المؤسسات القائمة في كل مكان، وكشف النقاب عن نقاط ضعفها ونقاط قوتها، وكشف عن قدرة الحكومة على توفير الحلول، بالاعتماد على الموارد الجماعية في هذه العملية. من أكثر الحظوظ السيئة التي واجهت الولايات المتحدة وربما البشرية جمعاء، أن يكون هناك زعيم بمواصفات ترامب على رأس الإدارة الأمريكية عندما ضربت الأزمة جذورها، وإذا منحته الانتخابات القادمة في نوفمبر ولاية ثانية، فإن فرص عودة الديمقراطية أو النظام الدولي الليبرالي على نطاق أوسع ستنخفض. كورونا ليس استثناءً عن حركة التاريخ، فهي بمثابة حرب عالمية لها تداعيات الكبيرة والكثيرة، وستكون لها نتائجها العاجلة والآجلة على المنظومة الدولية فكراً وسلوكاً، ولكن، قد لا يكون من المسؤولية الأخلاقية والإنسانية أن تحل البلدان الكبرى مشاكلها وآثار تداعياتها، وتترك البلدان النامية تغرق في فوضى الحاجة والمرض، لكن متى كانت الأخلاق محددًا للأدوار في تسيير النظام الدولي الحاضر أو المستقبلي إذا كان هناك شكل جديد له قادماً؟

مشاركة :