يبدو ان الجدل والنقاش حول ما يدور في الولايات المتحدة سواء فيما يتعلق بفيروس كورونا أو فيما يتعلق بتطورات أحداث مقتل الأمريكي من أصول إفريقية “جورج فلويد” لم يحظ باهتمام المختصين أو السياسيين فقط، ولم يعد يشكل طرفاً فكرياً عابراً كما يعتقد البعض، بل إنه أصبح من الضرورات الحيوية التي لا غنى عنها وتستوجب الوقوف عندها وعليها بحثاً وفهماً وقراءة وتبصراً معرفياً، خصوصاً أن هناك من وصف الولايات المتحدة بالبلد الذي ظهر على خارطة العالم كإستثناء لا يشبه سواه، وهناك من رأى فيها خلاصة الحداثة وما بعدها، وطرفٌ ثالث، نظر إليها بصفة مقولة ميتافيزيقية حطت على الأرض البكر لتصنع للعالم خلاصه من الإثم. وعليه، يمكن القول نعم، لكل بلد أساطيره، والولايات المتحدة رغم تاريخها القصير نسبياً، هي ظاهرة، ترسخت بالمخيال الامريكي أولاً تم تجاوزت جغرافيتها نحو الفضاء العالمي، ظاهرة جديرة بالفهم والتمحيص والذي يؤسس للتحليل السليم. مع وجود أكثر الشعوب تنوعاً وإبداعاً على الأرض، هناك ظاهرة ثقافية استعلائيّة بيضاء في نظرتها للأعراق الأخرى، تشكلت مع اكتشاف القارة الأمريكية، وشن حرب الإبادة على مواطنيها الأصليّين”الهنود الحمر”، وسبي الملايين من القارة السوداء كالحيوانات، ليكونوا رقيق أرض للعمل لصالح الرجل الأبيض، وقد استمرت هذه الظاهرة مترسخة داخل العقل الأبيض، وهي ظاهرة لم تكن مترافقة مع وصول الرئيس “ترامب” للحكم، الرئيس ذو التوجه الشعبوي المدعوم بشكل مطلق من الطبقة البيضاء، ومع ذلك تشير تقارير للمباحث الفيدرالية إلى أن نسبة ان العنف المدفوع بدوافع “عنصرية” بسبب اللون او الدين ارتفعت بنسبة (300%) منذ تولي ترامب السلطة. في معاني الحياة الأمريكية القائمة على العدالة والإنسانية والقيم الأخلاقية، هناك تفاوت طبقي وسوء توزيع للثروة، حيث يقدر دخل العائلة البيضاء بـ (85) ألف دولار بينما العائلة من أصول أفريقية بـ(38) ألف دولار، وهو ما يعني أن دخل العائلة السوداء يمثل (48%) من دخل العائلة البيضاء، كما أن (21%) من السود يعيشون دون مستوى الفقر، مقابل (8%) من البيض. وتقدر نسبة الامريكيين من أصول إفريقية، بــ (13%) من سكان الولايات المتحدة، ولم يصل إلى سدة الحكم إلا رئيس واحد منهم من أصل 45 رئيس منذ استقلال الولايات المتحدة، وأن نسبة التمثيل في مجلس الشيوخ واحد من أصل مئة وواحد، فيما لا يوجد أي حاكم ولاية من الولايات الخمسين ذو أصول إفريقية. في معاني ذاكرة الكابوي، والسوبرمان، هناك (3) مليون محارب متقاعد، ونسبة هامة منهم هم من المتعاونين مع المليشيات المسلحة، والتي تقدر بــ (165) مليشا منتشرة بكل أنحاء الولايات المتحدة، بل ويشرفون على تدريبها واجراء مناورات لها على العنف الحضري، وتشير بعض التقارير إلى أن (41%) من المجتمع الامريكي يحملون السلاح، وتقدر بـ(300) مليون قطعة، ويقدم مركز “جون هوبكنز” لسياسات الأسلحة والبحوث أن معدل القتل في الولايات المتحدة أعلى بعشرين مرة من نظيره في الدول الأخرى. وفي سياق اللحظة، وإرادة العاطفة، هناك من يعتقد أن ما يحدث هو نتاج واقع سياسي واقتصادي واجتماعي قائم على العنصرية والتمييز، ويمكن له يبلور فكرة تفكك هذه الدولة التي وصفت بالإمبراطورية التي لا تشبه سواها على مر التاريخ، وأن هناك الكثير من الحقائق التي تم سردها قد تدفع باتجاه الانفصال كحل جذري للمسألة العرقية والتي نشأت مع تكون هذه الدولة قبل قرنين ونيف من الزمن، منها أن المجتمع الأمريكي نفسه لا يحكمه نسيج إجتماعي حضاري واحد، وان القومية الأمريكية ليست قومية موضوعية كالقوميات الأوروبية التي تشكلت تاريخياً عبر صراع طبقي استمر مئات السنيين، وتوج بظهور الدولة القومية، وأن هذه الحقائق تجعل من الولايات المتحدة، دولة مؤهلة للتفكك. وبمنطق العقل والقراءة في تفاصيل الذاكرة السياسية، هنا يمكن القول أن الشواهد التاريخية، ودلالات الأرقام، لا تحكمها ضوابط جامدة، أو مقاييس محددة أو نماذج سابقة، ولكنها توفر فرصاً ممكنة لقراءة التطورات واتجاهاتها، بذات القدر الذي تفرضه من تحديات جسيمة واحتمالات مفتوحة امام إدارة طريقها لن يكون سهلاً على طريق السلطة والحكم، فأمريكيا الدولة والمجتمع بحاجة لمقاربة جديدة تتجاوز ضغوط اللحظة وتبدأ تغييراً ليس في رأس الهرم وإنما في قاعدته لتفكك ظاهرة بددت حلم الملايين من الأمريكيين، ونستذكر ما قاله يوماً “مارثن لوثر كينج” …. “لدي حلم بانه في يوم من الأيام، أطفالي الأربعة سيعيشون في بلد لا يكون فيه الحكم على الناس تبعاً لألوان جلودهم، وإنما بما تنطوي عليه أخلاقهم”.
مشاركة :