لطالما لعب الاقتصاد دور المحرك الرئيسي في صناعة التاريخ، باعتباره السبب الحقيقي وراء كافة أشكال الصراع، والدافع الأساسي لحركات الشعوب والأمم والجماعات، سواء في الحرب أم في السلم، لأنه ببساطة جوهر المصالح التي يسعى لتحقيقها أي شعب أو جماعة. وفي سياق ذلك، فالصراع الفلسطيني الإسرائيلي لا يخرج عن هذه القاعدة؛ فبالقدر الذي يلعبه البُعدان السياسي والتاريخي في توجيه دفة الصراع وطبيعة الحقوق التي يسعى الفلسطينيون للحصول عليها؛ إلا أن الاقتصاد، ومنذ تفجره، كان أحد أبرز الأركان التي يقوم عليها هذا الصراع، وحتى حينما تم التوقيع على اتفاق أوسلو، في محاولة للتوصل لتسوية عادلة تنهي الصراع من وجهة نظر الفلسطينيين، فيما كانت إسرائيل تهدف لإدارة وفق شروطها التي تسعى من خلالها إلى إبقاء الهيمنة على الشعب الفلسطيني، كان الاقتصاد حاضرًا بقوة، مشكّلاً البعد الآخر الذي لا يقل أهمية إلى جانب الأبعاد السياسية والأمنية، ضمن علاقة جدلية تجمعها معاً، ولا تقبل الانفصام. منذ بداية الصراع وحتى يومنا هذا، تأثرت القضية الفلسطينية بجملة الحلول المقترحة للتوصل إلى حل يرضي أطراف الصراع، والعمل على تفكيك هذه المشكلة وخلق بيئة من التعاون الإقليمي يرسخ ما أطلق عليه بناء شرق أوسط جديد يقوم على فكرة الحلول الاقتصادية قبل الحلول السياسية، ومع بدايات عملية السلام في تسعينيات القرن الماضي، أصبحت فكرة الحلول الاقتصادية أحد أهم الآليات التي سارت عليها عملية السلام، وربما هي المقوم الرئيس الذي حدد مستقبل مسيرة السلام، حيث بدأت المساعدات الاقتصادية تأخذ حيزاً كبيرة في جدول أي مفاوضات عربية فلسطينية إسرائيلية دولية، وذات أولوية في تحديد جدول الأعمال لعملية سلام مفترضة. وقد شكل مفهوم السلام الاقتصادي وسيلة حق يراد بها باطل، فهو سلام لم يحقق مبتغاه القائم على خلق حالة من الوئام والسلام وتحسين شروط العيش والكرامة الإنسانية، بل أبقى الاقتصاد الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة رهينة بيد إسرائيل، فها هي إسرائيل المتحكم بكل الموارد من أرض ومياه وأموال ومعابر وتواصل جغرافي من أجل بناء اقتصاد قادر على أن يشكل اللبنة الأساسية في مشروع الدولة، حيث وفر لها اتفاق أوسلو فرصة إعادة هيكلة الاحتلال على حساب مشروع التحرر وإقامة دولة فلسطينية مستقلة. إن المعاناة الفلسطينية ستظل رهينة للحصار الذي تفرضه على قطاع غزة، ولاستمرار نهب الأراضي والاستيطان ومحاولات الضم في الضفة الغربية، وكذلك لغياب موقف دولي حقيقي يدعم فرص سلام حقيقية بدلا من تبني الرؤية الإسرائيلية للحل، والتعامل بازدواجية فيما يتعلق بالحقوق الفلسطينية، وللأسف، فمنذ بدايات اتفاق أوسلو، شكلت المساعدات الدولية إطار تتبيث للاحتلال وأركانه، ولم تكن أداة أو ضمن سيرورة في سياق بناء اقتصاد حقيقي، ولعل ما تعرضنا له خلال السنوات القليلة الماضية من تراجع المساعدات نتيجة تأزم العملية السلمية ومحاولات إسرائيلية المستمرة لنهب الأموال الفلسطينية والتحكم بمقدار الضرائب العائدة للفلسطينيين، لدليل على الفلسفة التي قامت عليها الاتفاقات الموقعة والتي جل ما هدفت منها إسرائيل إعادة صياغة وهيكلة الاحتلال ضمن شروط تخفف عنها عبء السكان الفلسطينيين مع بقائها هي المسيطر على كل مقومات حياتهم وأحلامهم ومساعيهم للاستقلال. وهنا ومن خلال عملية جرد لطبيعة المشاريع التي قدمت للسلطة الفلسطينية من قبل الدول المانحة، تُظهر أن المنطق الذي تأسست عليه مشاريع التنمية والمساعدات، موجه نحو تذويت هياكل السلطة ولفها في ثوب من الضبابية والغموض وتعزيزها وترسيخها، والعمل على تفتيت الشعب الفلسطيني باعتباره وحدة سياسية منظمة وتقطيع أوصاله، والتهميش المتواصل للسياسة التحررية من مشاريع التنمية منذ أوسلو إلى يومنا هذا. لذا، المستقبل يتحدد من نطاق الإمكانيات المتاحة أمام الفلسطينيين، للنظر إلى ما وراء عملية أوسلو، من أجل إعادة تشكيل حركة التحرر الوطني الفلسطيني، وذلك من خلال العمل على نقض المقاربات التقليدية للتنمية وللمشاريع الاقتصادية التي ترافقت مع اتفاقيات أوسلو، مع العمل على استشراف البدائل التي تعيد اللُّحمة والوحدة للفلسطينيين عبر خلق بيئة ممكنة للاقتصاد الحر واقتصاد السوق المفتوح، وتوفير الاحتياجات للمواطنين، وخلق بيئة حاضنة لازدهار القطاع الخاص، ويسعى الاقتصاد الفلسطيني لإنتاج قيمة مضافة عالية وسلعا وخدمات تنافسية وتوفير شروط اقتصاد معرفة، والإستثمار في الشباب، واستخدام التكنولوجيا التي فتحت حدوداً طالما كانت قيد الأسر والتحكم الإسرائيلي. فالسلام ، من وجهة إسرائيلية لم يكن أكثر من تحسين شروط حياة للفلسطينيين وإعادة لترسيخ وهيكلة المشروع الاحتلالي واستمرار لرفض قيام دولة فلسطينية، بل إنه، بدلاً من التعامل مع الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، استغلت الدول المانحة وإسرائيل، قدراتها المالية والسياسية، على المستويين النظري والعملي، لتختزل القضية الفلسطينية تدريجياً من قضية تقرير مصير وتحرر من الاستعمار إلى قضية تتمحور بشكل حصري على ما يسمى بـ “عملية السلام”، مع ما يصاحبها من مفاوضات لا نهاية لها، قادت لتهميش القضية الفلسطينية، إن لم يكن التعامل معها كعامل إزعاج، لا أكثر. ليس ثمة أفق للاقتصاد الفلسطيني ولفرص إقامة الدولة الفلسطينية تعكس إمكاناته الحقيقية إلا عبر إعادة صياغة العلاقة مع اسرائيل وفق أسس تقوم لتحرير الاقتصاد الفلسطيني من حالة التبعية المطلقة لإسرائيل، وكذلك إعادة صياغة شروط المنح والمساعدات بحيث تكون ضمن رؤية فلسطينية تخدم مشروع التحرر، عبر إعادة تعريف الاقتصاد الفلسطيني كاقتصاد مقاوم. صفقة القرن، التي نأمل أنها إندثرت، هي امتداد لفكرة مفهوم السلام وفقاً للنهج الإسرائيلي، التي تسعى لتحسين شروط الحياة المدنية والمعيشية، حيث سعت الولايات المتحدة تاريخياً، للبحث في حل القضية الفلسطينية من منظور إنساني، ولعل كل المشاريع التي طرحتها على مر الإدارات المتعاقبة، تؤكد هذا المسعى الأمريكي، وصفقة القرن ليست استثناءً عن التقليد الأمريكي. اليوم ونحن نعيش حالة من الحراك السياسي والدبلوماسي، نتيجة وجود إدارة أمريكية تقليدية الرؤية في تعاطيها مع عملية السلام، هل سيتم استمرار نفس النهج الفلسطيني في التعامل مع الاقتصاد والسياسة وبقاء الموارد الفلسطينية رهينة العقلية الإسرائيلية، أم سيكون هناك إنقلاب مفاهيمي وأدائي على التجربة المريرة التي عاشتها القضية الفلسطينية عبر 27 عاماً من المفاوضات الماراثونية؟.
مشاركة :