"مقاومة" فيلم عن عبقري البانتومايم مارسيل مارسو | طاهر علوان | صحيفة العرب

  • 7/3/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

يستعرض فيلم “مقاومة” للمخرج جوناثان جاكوبوفيتش جانبا من حياة مارسيل مارسو وتكريس بداياته من أجل إنقاذ أطفال مظلومين، وفق خط درامي انتقائي ينتصر لفكرة الصراع اليهودي - النازي الذي عرفته البشرية قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية، أكثر من إبرازه لسيرة ومسيرة المبدع المسرحي الشهير ورائد فن البانتومايم. ليس سوى خفة الظل والكوميديا تلك التي تطبع مارسيل مارسو في بواكير حياته، لكنه وهو يعيش شغفه المبكر للتمثيل لم يكن يتوقّع أن يعيش حياة مختلفة عن والده القصّاب وأيضا جده اللذين امتهنا بيع اللحوم. ليجد مارسيل نفسه مساعدا لوالده في دكان صغير بفرنسا بعد رحيل الأسرة هاربة من بولندا بعدما بدأت حملات مطاردة اليهود مع مجيء هتلر إلى الحكم. لم يكن ذلك الشاب يتوقّع أن يجد نفسه في مواجهة الغزو النازي الزاحف نحو باريس وجها لوجه، وأنه لا يمتلك تلك الأدوات الوحشية لمواجهة ذلك الغول الذي بدأ يغزو ويُسقط المدن الأوروبية الواحدة بعد الأخرى. يسبق ذلك، وقبل الذهاب إلى تجربة ورحلة مارسيل مارسو ينقلنا المخرج جوناثان جاكوبوفيتش في فيلمه “مقاومة” إلى ألمانيا النازية ذاتها، وذلك في بضعة مشاهد مؤثرة يستهل بها الفيلم من خلال الحوار بين والدي طفلة يهودية تتساءل لماذا يكرهوننا؟ وما أن تتشكل في عقلها الإجابة، حيث يخفّف الوالدان من حدّة السؤال حتى يداهم النازيون المنزل ويعتقلون الأم والأب أمام أنظار الطفلة التي تشهد إعدامهما فورا بالرصاص، ولندخل في إعدام كامل ثم لننتقل إلى فرنسا وإلى باريس تحديدا حيث تنطلق سيرة مارسيل مارسو (يقوم بالدور الممثل جيسي إيزنبيغ). ها هو وبتأثير من شقيقه ووالده يقرّر أن ينظم إلى فريق تطوي لاستقبال الأطفال اليهود الذين فقدوا ذويهم في ألمانيا، وقرّرت السلطات الهتلرية التخلّص منهم برميهم على حدود الدول الأخرى، وبالفعل تحضر الدفعة الأولى من أولئك الأطفال المرعوبين، حيث سيتحوّل مارسو إلى أيقونة لهم ويخاطر بحياته من أجلهم. باريس وقد انتشرت فيها الأعلام النازية ولا يكاد يوجد شارع أو محطة قطار بلا ثكنة للجنود الألمان، يتحقّقون من المارة ويشتبهون بشقيق مارسيل ويقبضون عليه بشبهة الانتماء إلى المقاومة ضد النازيين. لكن عملية سريعة يقوم بها مارسو تنقذ شقيقه والآخرين بإلقاء زجاجة مولوتوف حارقة، وليتحوّل أحد شوارع باريس إلى ساحة معارك ومطاردات. في موازاة ذلك، سوف تكون قصة الأطفال اليهود هي محور البناء الدرامي في هذا الفيلم، فبعد الاحتفاظ بهم في أحد المباني القديمة وغير المعروفة ومع وصول الجيوش الألمانية إلى تخوم باريس، يصبح من الحتمي إبعاد أولئك الأطفال عن الخطر، إذ أنهم والقائمين عليهم سوف يعدَمون إذا علم النازيون بوجودهم. نحن الآن في مطلع الأربعينات حيث حياة الرعب التي يعيشها الفرنسيون، والفرنسي مشروع مقاوم معاد للنازية حتى يثبت العكس بينما مارسيل مارسو يكرّس جهده للتخفيف من وطأة الكابوس الذي يخيّم على أولئك الأطفال من هول ما شاهدوه، ثم يقوم بتعليمهم كيفية تسلق الأشجار، فيما إذا داهمهم النازيون والاختباء هناك، فضلا عن أجواء التمثيل الصامت التي احترفها مارسيل وهو لا يزال شابا يافعا، لم يدخل مدرسة التمثيل بعد. تحضر شخصية إيما (الممثلة كليمينس بويزي) صديقة مارسيل وحبيبته التي تقف إلى جانبه حتى يتم القبض عليها هي وشقيقتها، ويتم ترويعها على يد الضابط النازي كلاوس باربي (الممثل ماتياس شفيغوفر) الذي يتحوّل إلى رمز للرعب في الجنوب الفرنسي، فهو الذي يعتقل ويقتل وهو الذي يحقّق مع إيما وشقيقتها لمعرفة أين مقر المقاومة ومن هم المقاومون في مدينة ليون، معقل الثوار ضد النازية، ولما يفشل في الحصول على المعلومات يقتل شقيقة إيما للضغط عليها. مشاهد التحقيق والإعدام في إحدى الصالات الرياضية من المشاهد المصنوعة بعناية في فيلم “مقاومة”، فضلا عن إظهار المشاعر المتناقضة للضابط النازي فهو يتفاعل مع زوجته وطفله الرضيع، ويعجز عن ترضية الزوجة الرافضة للإعدامات العشوائية وخاصة للكهنة اليهود. لكنّ الزوج يمضي بوحشيته إلى النهاية ليجسّد باربي شخصية محورية لم تختلف كثيرا عن صورة ضباط النازية المستبدين المشبعين بالفكر النازي المتطرف. في المقابل ثمّة حياة أخرى يصنعها المقاومون المطارَدون والعائلات اليهودية المرعوبة من وصول النازيين إلى كل مكان، بعد سقوط لوكسمبورغ وبلجيكا وهولندا في أيدي القوات النازية وبدأ الدور على فرنسا. وفي تحوّل درامي ومسار سردي مختلف يتم الانتقال بالأطفال اليهود عبر الحدود الفرنسية – السويسرية لغرض النجاة من النازيين. يقود مارسيل عددا من أولئك الأطفال مع إيما وشقيقه ويرحلون بالقطار باتجاه الحدود مع سويسرا، غير متوقعين أن الضابط النازي باربي سيكون لهم بالمرصاد. ها هو يعترض مسيرة القطار ويصعد متطلعا إلى الوجوه في مشهد حبس أنفاس، لأن الجميع ارتدوا ثياب الكشافة وراحوا ينشدون أغاني فرنسية، ومع ذلك يتفرّس باربي في الوجوه في مشهد صامت مخيف ليتركهم يذهبون إلى شأنهم، ثم يكتشف أن أولئك الأطفال لم يكونوا إلاّ يهودا يجري تهريبهم عبر جبال الألب. لعل الإشكالية المرتبطة بهذا النوع من الدراما الفيلمية التي تجمع ما بين السيرة الذاتية وبين الجانب التوثيقي والوفاء للحقيقة، هي أنها لا تختلف كثيرا عن العديد من الأفلام التي عرضت سلوك المقاومين في حقبة الصعود الهتلري والتمكّن من أوروبا. ولنقل هنا أنها سيرة انتقائية، كانت المساحة الأوسع فيها للأحداث هي تلك التي وجد مارسو نفسه في وسطها وليس أحداثا صنعها هو، والحاصل أنه وإن قاد حملة تهريب العشرات من الأطفال باتجاه سويسرا لإنقاذ حياتهم إلاّ أن شخصيته كمبدع مسرحي كبير في فن البانتومايم لم تتجسّم بما فيه الكفاية، وكأن المخرج أراد تكريس فكرة الصراع اليهودي-النازي كثيمة أساسية وما مارسيل وأسرته ومن معه إلاّ مساندين لفكرة الفيلم ومساره الدرامي، ليس أكثر. وفي المقابل، فإن علاقته مع إيما لم يتم التوقف عندها بما فيه الكفاية وكانت معاناتها تبدو لوحدها ومرتبطة بها شخصيا، خاصة بعد مقتل شقيقتها على يد المحقّق النازي وبذلك لم يتم التعمّق في العلاقة بين الشخصيات ما عدا أجواء الحياة التي كان يعيشها مارسيل في وسط أسرته، وحيث يبدو أنه ليس متدينا بالشكل المتعارف عليه في المجتمع اليهودي المنتشر في باريس، فهو يعيش حالة من الهلع المتواصل إزاء المصير البشع الذي يمكن أن يواجهه على أيدي النازيين. وأما إذا مضينا مع بناء شخصية مارسيل فهي شخصية منقذة ومضحيّة، وهذا هو الذي تم التركيز عليه من خلال فكرة تهريب الأطفال إلى سويسرا، حيث شهدنا التوغل في المهمة في وسط أجواء شديدة القسوة والبرودة.. الأطفال وهم يسيرون في الظلام وعبر الثلوج والغابات ثم ليفاجأوا بملاحقة باربي وجنوده لهم، وهنا سوف تحضر التدريبات التي تلقّاها الأطفال في تسلق الأشجار والاختباء فيها حتى زوال الخطر والمضي في المهمة الشاقة التي تتكلّل أخيرا بالنجاح ويصل الأطفال بسلام إلى سويسرا. لا شك أن من يهتم بإبداع مارسو سوف يتوصّل إلى أن تلك المرحلة من الكفاح ضد النازية هي التي رسمت خطوطها الحادة ومساراتها في قرارة شخصيته وعلى صعيد الفيلم، ورغم عدم التوقّف العميق عند التحوّلات الكبرى في حياته إلاّ أن الفيلم رسم له صورة عميقة الإنسانية وعلى درجة من الإيثار وحب مساعدة الآخرين، لاسيما وهو يشاهد كم الظلم الذي نشره النازيون من حوله وهم يصطادون أصدقاءه ومعارفه واحدا بعد الآخر وحتى والده انتهى به المطاف في معتقل أوشفيتز حيث أعدم هناك في العام 1943. على صعيد السرد الفيلمي التقت جميع المسارات في تقديم مغامرة إنسانية شديدة الخطورة، خاصة وأن مارسيل كان يتنقل في حقل ألغام وهو طالما وقف متسائلا كيف يمكن لأدوات الفنان وحساسيته المرهفة أن تواجه الغزاة وسلاحهم الفتاك ودباباتهم، وهو ما ردّت عليه صديقته إيما بقولها “من المهم أن تتقدّم خطوة وأن تصنع لنفسك حلما”. لكن الأمر بالنسبة لمارسيل ليس كذلك ولا هو بهذه البساطة لاسيما وهو يسمع عن جيوش هتلر التي تغزو أوروبا تباعا وتنهار أمامها قلاع وترسانات وجيوش دول، فما بالك بأفراد عزل وصدور عارية. ويبدو من خلال ذلك السرد الفيلمي أن تأثيرات مارسو على الجيل المشرد والمُصاب بالهلع قد أنتج بشكل ما استجابات ملحوظة، ولهذا خاض الجميع المخاطر نفسها من أجل الخروج من المحنة، وكان كل واحد من أولئك الصغار يحمل معه ثقل الماضي والذكريات القاسية التي مرّ بها. ولكنه استطاع أن يكافح ويتعرّض للخطر ليعبر إلى الضفة الأخرى بنجاح. ويختتم فيلم “مقاومة” كما بدأ بتتويج الجنرال الأميركي جورج بالتون (الممثل إيد هاريس) لمارسيل مارسو أمام حشود من الجنود، وقد وضعت الحرب أوزارها ليقدّم مارسيل الجندي والمقاوم الشجاع، ولكن ليس في زي الجندي المحارب بل الفنان والإنسان الذي ظل يرسم للبشرية هيبتها.

مشاركة :