ليس مطلوباً تماما في بعض الأحيان في أفلام السيرة الذاتية التي تتناول حياة الكتاب التدرّج مع الكاتب منذ بداياته الأولى ونشأته، مرورا بشبابه وبواكير منجزه حتى مماته، وربما في هذا الإطار سوف نقترب كثيرا من النمط أو الاتجاه الواقعي وصولا إلى الوثائقي. وهو الذي تجنّبته الكثير من الأفلام في تناول الكاتب في لحظته الراهنة وهو في قلب إشكالية وجوده والصفحات البيضاء التي تنتظر سطوره وكلماته. ونحن نتدرّج في أفلام السيرة التي تتناول حياة الكتاب، ربما بسبب الانشغال بمراحلها، سوف نفقد مراحل أكثر أهمية، وسيتم المرور عليها سريعا بسبب كثرة المحاور والمنعطفات في حياة المبدع، التي يجب المرور عليها. وعلى هذا سوف تعيد السيرة الذاتية في فيلم “شيرلي” تلك الإشكالية مجددا، أترانا يجب أن نكون انتقائيين تماما ونحن بصدد السيرة الذاتية أم أن نعنى بأكبر وأهم التحوّلات في حياة الشخصية؟ أسئلة ترافق منذ الوهلة الأولى هذا الفيلم للمخرجة جوزيفين ديكر وهو فيلمها الرابع في مجال السينما الروائية والذي يعنى بالسيرة الذاتية للروائية الأميركية شيرلي جاكسون (1916 –1965). عمر قصير وتجربة غزيرة عمر قصير لم يتعدّ 48 عاما عاشته شيرلي لتترك وراءها ست روايات وحوالي 200 قصة قصيرة وحضورا بارزا في مجلة “نيويوركر” يوم لم يكن للأصوات النسائية مثل ذلك الحضور. ولو نظرنا مليّا إلى المراحل التي عاشتها جاكسون لوجدنا أنها كانت كافية لاختيار أهمها على الإطلاق كالحربين العالميتين فضلا عن الصراع إبان الحرب الباردة والمماحكات السياسية والفضائح في داخل الولايات المتحدة وقضايا الأقليات وخاصة من الأصول الأفريقية. لكن كاتبة السيناريو سارا غوبنز لم تنجذب لكل ذلك، ويبدو أن الرواية التي استندت إليها وهي تحمل ذات اسم الفيلم للكاتبة سوزان سكارف ماريل، وتم تكريس أحداث الفيلم منذ البداية إلى النهاية في المرحلة الاحترافية الكاملة لشيرلي، ولكن من دون الإشارة إلى سنة محددة أو حقبة زمنية. في مرحلة النضج الكامل ها هي شيرلي (الممثلة إليزابيث موس) بصدد كتابة رواية جديدة لكنها عاجزة عن الإلمام بها، وهي رواية أو نص مفتوح أو قصة لأن شيرلي ببساطة لا تسمح لأحد بالاقتراب من عالمها. لكننا نعيش معها تأثرا عميقا مع قصة اختفاء امرأة تدعى باولا، تم نشر صورها في الأماكن العامة ومناشدة من لديه معلومات عنها أو يعلم عنها شيئا أن يتصل بالسلطات. على أن قصة تلك المرأة بالنسبة إلى شيرلي ليست مسألة اختفاء عادي، بل إنها أزمة المرأة في مجتمع بطريركي شديد الأذى، ولهذا سوف تنصح زوجة ابنها بأن تنجب مولودا ذكرا لأنها إن أنجبت الفتاة فسوف تتلقى ما لا تطيق. هنا يحضر النسيج الاجتماعي ممثلا أولا في الأسرة المكوّنة من الزوجة شيرلي وزوجها الأستاذ الجامعي ستانلي (الممثل ميشيل ستولبراغ) ثم يقرر الابن فريد (الممثل لوغان ليمان) الالتحاق بوالديه بصحبة زوجته روس (الممثلة أوديسا يونغ)، وهو حضور غير مرحّب به من طرف شيرلي التي تريد أن يبقى كل شيء على حاله وتعدّ التنظيم والنظافة وكثرة الناس ضربا من الفوضى والجنون. المبدعة في عزلتها امرأة تكتشف قساوة العالم وخداعه من حولها امرأة تكتشف قساوة العالم وخداعه من حولها الحاصل أنها المبدعة في عزلتها لكنها عزلة لا تريد أن يخترقها صوت ولا بشر، ولهذا سوف تتعامل بعدوانية مع ابنها الشاب وزوجته، ولن تتردد من السخرية والشماتة واللسان السليط، وكل ذلك كان كافيا لفريد وروس لكي يعودا أدراجهما ويتركا المنزل، لكن ذلك لن يحصل. وعند الحديث عن التقاء الخطين الدراميين اللذين يرتبطان بروس وشيرلي سوف نشهد نموا دراميا مطردا تطلّب من المخرجة الكثير لكي توصلنا إلى تلك الحصيلة، وكأننا أمام قطع وشظايا يتم جمعها تدريجيا وضمّها لبعضها البعض لتتوّج يوما ما وبقدرة عجيبة بقبول شيرلي لروس ثم الذوبان ودّا في بعضهما. لا شك أننا أمام غزارة تعبيرية ودرامية وسرد شديد الإتقان والتوازن بل إننا سوف ننأى بأحداث الفيلم عن كل ما قلناه في البداية من توصيف واقعي وسيرة ذاتية لننقل الفيلم إلى منطقة الفيلم التجريبي، وهو ما يؤكده الناقد ريتشارد برودي في مقال مهم له عن الفيلم في مجلة “دي نيويوركر”. التجريبية التي يطرحها هذا الناقد إنما تكمن في التمرد على الشكل وعلى الأسلوب الواقعي والذي يصل في بعض الأحيان إلى الدهشة ومن ذلك مثلا قطع الأزمنة والتحولات المونتاجية المفاجئة والحادة. فمثلا في مشهد من مشاهد الذروة تجرّب روسي الانتحار وتقترب منها شيرلي لمنعها من الموت وتحاورها بهدوء، وخلال الحوار سوف ننتقل إلى مشهد آخر تكون فيه روس قد عادت إلى زوجها حاملة طفلتها مع أنها تظهر في مشهد آخر وقد اختفت من قمة الجبل ولم تبق سوى شيرلي حتى يلتبس المعنى في ما إذا كانت روس قد انتحرت فعلا أم أنها عادت إلى زوجها. وإذا مضينا في هذه الجدلية المدهشة التي جرى ترسيخها في هذا الفيلم نجد أن كل تحوّلات شيرلي لم تكن نزقا ولا مصلحة ولا جنونا ولا استهتارا بكرامة أحد، بل إن طبيعة الأشياء وإحباطاتها لا تتيح للرهبة الإنسانية إلا أن تفصح عن نفسها. جمالية الشكل والحوار والمشهد تتكامل في كل مواجهة، بل قل إن الفيلم هو فضاء متّسع للمواجهات، مواجهة الحقائق المتوارية خلف النفاق الظاهر. تجريبية الفيلم تكمن في التمرد على الشكل وعلى الأسلوب الواقعي والذي يصل في بعض الأحيان إلى الدهشة خلال ذلك لا شك أن هناك حسّا جماليا عميقا بأزمة الشخصية، جنون وجذوة الإبداع المرافق لشيرلي سيكون لهما وجهان لدى تفسيرهما جماليا على الشاشة، وجه هو القبض على الحقيقة الجافة المجرّدة الصادمة ووجه آخر لا تظهر فيه شيرلي إلا شخصية أنانية بشعة وعدوانية. ما بين هذه المنعطفين في الشخصية الدرامية الرئيسية سوف تحض روس في قلب الأزمة ويبدو أنها أشد نقاء وعفوية مما نتصور، وهي تذكرنا بالشخصية المأزومة في فيلم انغمار برغمان بيرسونا وكذلك في سوناتا الخريف، وصولا إلى شخصية فيرونيكا في رائعة المخرج البولوني كريستوف كيشلوفسكي. الشخصية المأزومة سوف تجد نفسها وهي تستدرج لدخول عالم شيرلي الكتابي اللاذع، فهاهي روس قد تخلت عن الدراسة في الجامعة لتتفرغ لخدمة شيرلي والسهر على احتياجاتها، شيرلي في المشهد التالي لمباشرة روس عملها تثبت أنها لم تخرج من المنزل قط منذ 40 يوما، فهي في عزلة قاسية وجهاز الطباعة القديم مجرد ماكينة صماء بينما روح باولا ترفرف من حول الكاتبة حتى تحضر روس وتصبح هي مصدر الإلهام للوصول إلى الهدف. بالطبع يمكن في هذه الحالة إدراج المعالجة الفيلمية ضمن فئة الأفلام النفسية، فالأعراض الساكوباثية لدى شيرلي صارخة في الظاهر وتتحول إلى عزلة من جهة ولامبالاة من جهة أخرى، خيانة زوجها البروفيسور لها يقابلها الطلب منها أن تجلس إلى طاولة العشاء، هذا كل شيء بينما يومها الطويل وكيف قضته، فذلك ما لا يسأل عنه الزوج. وأما روس فهي التي تسلّم أن زوجها يبذل جهودا ويحقق نجاحات، لكن سبب تأخره في العودة هو إعطاء وقت إضافي لناد ثقافي يعنى بالمواهب وهو نادي شكسبير، لكن يا لها من مفارقة، كل أولئك الغارقون في الثقافة والإبداع، الأب والابن تحديدا هما غارقان في الخيانة أصلا، تلك المفاجأة التي تفجّرها شيرلي التي تراقب كل شيء صامتة حتى أرادت إيقاظ حسن نية روس وبراءتها، لتكتشف كم أن العالم من حولها قاسٍ ومخادع إلى درجة أنها تندفع نحو الانتحار. تكامل أزمتي امرأتين غزارة تعبيرية ودرامية وسرد شديد الإتقان والتوازن غزارة تعبيرية ودرامية وسرد شديد الإتقان والتوازن لنعد قليلا مرة أخرى إلى صناعة المشهد بإتقان ومهارة، فالإشكالية إنسانية وذات بعد تجريدي وثقافي وعلى المخرجة أن تستخدم جميع أدواتها لتقدم غزارة تعبيرية يترقّبها المشاهد وهو ما يقع فعلا، فمثلا في مشهد خارجي تتحدث فيه شيرلي عن أنواع الفطر الذي نبت في الغابة القريبة وأن أحد الأنواع ذي سمّية قاتلة وهو الذي تلتهمه شيرلي وتمضغه أمام روس التي ينتابها الهلع فتسارع لإنقاذها، وهنا سوف ننتقل فجأة من الرعب والقلق إلى السخرية والضحك، إذ أن ذلك الفطر لم يكن سامّاً قط، لكنه كان اختبارا للعلاقة التي سوف تنشأ ما بين شيريلي وروس. وفي بحث شيرلي في قضية اختفاء باولا سوف تنجح المخرجة ببراعة في أن تجعل مشاعر الضياع والفقدان التي أصابت باولا هي مشاعر مشتركة تتقاسمها شيرلي وروس ولهذا تنجح شيرلي بمساعدة روس في تجاوز جميع عقبات الكتابة وتمضي إلى الإنجاز اليومي السريع وهي التي ينظر إليها على أنها كائن بائس وأناني. ولكي تتجسم بشكل أعمق صورة أزمتي شيرلي وروس سوف تنقلنا المخرجة إلى مشهد خارجي هو احتفال أساتذة الجامعة والعاملين فيها وعائلاتهم ليظهر زوجها البروفيسور على حقيقته، فهو يتراقص محتضنا النساء من حوله ويلامس الأجساد ويتصعلك وخلال ذلك تبحث روس عن زوجها فلا تجده إذ سيكون في مكان من الحفل ومع فتيات أخريات، لكن رد فعل شيرلي لم يكن بسيطا قط عندما بدأت بسكب النبيذ على الأريكة بينما كانت روس ترمي الطعام انتقاما أيضا لأن المكان يعجّ بالخيانة والفوضى ولهذا تخرج شيرلي متهالكة ومستندة إلى روس مبتعدة عن ذلك المشهد. المرأة في وظيفتها الاجتماعية، الزوجة النبيلة والمخلصة في مقابل بيئة أنانية لا تكترث لكل ذلك، ولهذا لا تجد شيرلي إلا سبيل السخرية واللامبالاة والاحتقار لكل أحد، وهي تتغابى وتصبح مصدر سخرية، لكنها في الواقع تكون قد قرأت كل شيء. توظف المخرجة أدواتها التعبيرية توظيفا متميزا وخاصة المونتاج الذي برعت فيه بكيفية تبدو مربكة، لكنها كانت ضرورية وكأن المونتاج هو إحدى صرخات الشخصية وعلامة من علامات تحولاتها، فالملاحظ أن الحوار لم يكتمل بعد لنجد أن الفعل قد بدأ والمشهد التالي قد تم الانتقال إليه أو يكون الحوار المستمر هو بداية للمشهد الجديد. والعنصر الآخر الذي لا يقلّ أهمية وهو أن الفيلم غلبت عليه المشاهد الحوارية وتصوير أغلب المشاهد في حدود جغرافيا مكانية ضيقة لا تتعدى المنزل ما عدا مشاهد الجامعة والغابة، وهي ليست بكثيرة تلك التي تم تصويرها في المنزل. الحاصل أنه على الرغم من كثرة المشاهد الحوارية التي تشكل علامة بارزة في الفيلم، إلا أن المخرجة استطاعت أن تمنح تلك المشاهد جمالية عميقة انتشلتها من الرتابة والملل وهو عنصر تميّز إضافي في هذا الفيلم. المخرجة جوزيفين ديكر من مواليد 1981. بدأت حياتها السينمائية مخرجة للأفلام الوثائقية والقصيرة. بدأت مسيرتها في إخراج الأفلام الروائية عام 2013. عندما كانت تخرج فيلمها الروائي الثاني لم تتوفر لديها الميزانية الكافية لإكماله فاضطرت إلى نشر إعلانات مطالبة بالتبرع لإكمال الفيلم. بدأ تميّزها الحقيقي مع فيلمها الروائي الثالث “لهب” لتتوج ذلك بفيلمها الأخير “شيرلي” الذي يعرض الآن في الصالات. لجدارة هذا الفيلم أجرى معها المخرج الكبير مارتن سكورسيزي حوارا مباشرا تم بثه عبر يوتيوب.
مشاركة :