فكرة أن تتخلى إسرائيل عن ضم أراضي فلسطينية، وَهمٌ يحسن التخلي عنه. ليس لأن وجود إسرائيل بحد ذاته، هو في الأساس، مشروع ضم، بل لأن فشل أي محاولة إضافية للضم سوف يثير في وجهها أسئلة، إسرائيل لا تعرف الإجابة عنها. هوية إسرائيل، وحدودها، وأساطيرها، كلها سوف تقع تحت طائلة الشكوك. وبالنسبة لكيان لا يزال تجريبيا من الناحية الجغرافية، والعقائدية، والاجتماعية، فإن مُشاغلته بأسئلة تمس هذه الجوانب تعد معضلة كبرى، حرصت إسرائيل، على امتداد وجودها أن تتحاشها. هذا بحد ذاته يلقي بظلال من الشك حول قدرة هذا الكيان على أن يؤثث لنفسه “تاريخية” محددة، سواء من ناحية الأسس المتعلقة بالزمن، أو من ناحية التكيّفات المطلوبة معه. إسرائيل بكل ذلك، كيان غير مستقر، ولا يعرف نفسه، ولا يعرف أين يفترض لحدوده أن تتوقف، ولكن أهم من هذا كله، فإنه كيان لا يريد أن يواجه أسئلة لا يملك عنها جوابا. وإذا توصل الى أي جواب، فإنه سيكون موضع جدل وخصومات عنيفة تهز “استقراره” الظاهري. ولهذا السبب، فان خياره الوحيد هو أن يهرب بتلك الأسئلة الى الأمام. وحيث أنه يمتلك قوة عسكرية، هي في الواقع أداة الشعور الكياني الوحيد، فانه مُكره على فرض الإكراه بالقوة لكل الافتراضات والمزاعم والقناعات الأسطورية المؤجلة. وهي مؤجلة لأنها موضع شقاق داخلي وتناقضات، ومواجهات مع النفس والمحيط والعالم. إسرائيل، بعبارة أبسط، كيان مأزوم من قمة رأسه – إذا كان لديه رأس لا مجرد أوهام- الى أخمص قدميه. والحل الوحيد الذي يملكه هو أن يواصل أعمال الاستيطان والضم بكل ما تعنيه من قوة وعنف وانتهاكات، لأنه من دونها لا يعرف ماذا يمكنه أن يفعل. هذا الواقع، يملي على القادة الفلسطينيين ألا يبتهجوا كثيرا إذا ما رأوا مشروع الضم الجديد يتعثر. كما أنه يملي عليهم أن يستعينوا بخيارات مواجهة واضحة، تفهم المأزق الإسرائيلي وتبتدع الوسائل الكفيلة بتعميقه. السلام، كان بعضنا يقول، هو حاجة إسرائيلية، أكثر منه حاجة فلسطينية. ولكن هذا، هو الآخر، وهم. إسرائيل لا تريد السلام، ولا تستطيع، بسبب من طبيعة مأزقها الكياني بالذات، أن تعيش فيه، ولا أن تتلاءم مع متطلباته. كيان يتعارك مع نفسه حول كل مفهوم من مفاهيم هويته، لا يكسب من السلام إلا بمقدار ما يخسر من خرافاته. وهذه مشكلة عويصة بالفعل. وهي مشكلة تعبر عنها كل سياسات إسرائيل، وكل أحزابها، وكل خياراتها. عندما تصطدم الخرافة بالسلام، أو عندما يضع السلام حدودا جغرافية للخرافة، فماذا ـ تعتقد ـ أن إسرائيل سوف تختار؟ الصهيونية نفسها، كمشروع أيديولوجي، هي بعبارة أكثر عُريا، أيديولوجيا حرب تدوم الى الأبد. أعرف أنه سيقال إن إسرائيل حققت سلاما يبدو مستقرا مع مصر والأردن من دون أن تواجه مع نفسها كل تلك التحديات، بل ويمكن القول أيضا إنها انسحبت من غزة، ومن بعض أراضي الضفة الغربية، من دون أن تسفر أسئلة الوجود والهوية عن منغصات خطيرة. ولكن هذا لم يحصل إلا مع نزاع “مستقر” أكثر مع الفلسطينيين، كما أنه لم يُلغ شيئا من التطلعات بأن يتحول التطبيع الى وسيلة من وسائل “التوسع” النظرية على الأقل. الضم، جزئيا، خطوة بعد أخرى، أو دفعة واحدة، سوف يستمر، لكي يبقى المؤجل مؤجلا. ماذا يجب أن يعني ذلك للفلسطينيين؟ بما أن المشروع، هو مشروع حرب لا تنتهي، فان سلاما لا ينتهي ليس هو الجواب. يمكن للفلسطينيين أن يتجادلوا كثيرا حول فرص السلام وغاياته وخرائطه. كما يمكنهم أن يتجادلوا أكثر حول طبيعة الصراع وتاريخه ونهاياته المنتظرة، إلا أن المنطق يقضي بألا يتجادلوا حول فكرة أنهم يعيشون في أجواء حرب، وأنهم مجبرون على خوضها، ليس من أجل سلام لن يأتي، بل من أجل الحرب نفسها، لعلها تقدم الجواب الأخير على المأزق. الحرب الى الأبد، قدر تاريخي تنبأ به القرآن الكريم (يا سبحان الله) في أكثر من موضع. ولم يحدث أن توفرت ولا حتى إشارة واحدة الى أي سلام. فارفعوا عن الكاهل ذاك الوهم. عدم قدرة إسرائيل على التوصل الى جواب حول الأسئلة الكيانية التي تواجهها شعوبها وقبائلها غير المتآخية، هو نفسه جواب، قد ننتهي الى أنه مُقنع أكثر من الفشل الراهن في إنشاء هوية مستقرة لاتزال لا تعرف، ولا تريد أن تعرف، من أين تبدأ أو ما هي حدودها. تلك القبائل، سوف تقنع في نهاية المطاف، أن القوة العسكرية لا تكفي لتحويل الخرافة الى واقع، وأن من الخير للخرافة أن تبقى في مكانها، بوصفها “التاريخ” الوحيد الممكن.
مشاركة :