الحركات الفنية لها طابع مخصوص قلّ أن يخرج عنه المنتمون إليها، غير أن الستريت آرت شذّ عن القاعدة، فأتباعه لا يلتزمون بقواعد معلومة إلّا في القليل النادر، فهم يمارسون حريتهم وفق حساسيتهم، ويبتكرون صيغا من الفن جديدة كما هي الحال مع الكندي برادلي هارت. باريس – ما انفكّ فنانو الستريت آرت يبحثون عن سبل غير مألوفة، يحاولون من خلالها أن يسجلوا بصمة خاصة في مسار الفن المعاصر، منهم من وجد في الأقبية والدهاليز وأنفاق المترو والمباني المهجورة فضاء يعبّرون فيها بوسائلهم الفنية عن همومهم ومشاغلهم، ومنهم من ابتدع صيغا أخرى مستوحاة من أشياء المعيش اليومي، المستعملة أو الملقاة في الشارع، إما تعبيرا عن موقف من مجتمع الاستهلاك، أو سعيا إلى تحقيق مطمح جمالي. وأغلفة الفقاقيع الهوائية التي تلفّ بها البضائع الهشة، عادة ما يتسلى الصغار، وحتى الكبار، بفرقعتها تباعا، قبل رميها في سلة المهملات، إلّا أن الكندي برادلي هارت اكتشف فيها إمكانية استعمال آخر، وبدل أن يتخلّص ممّا يقع بين يديه، اتّخذه أداة لتلوين لوحات فنية شهيرة، أو صور أعلام معروفين. في البداية كان يبدو كطفل يلهو بلعبة، ولكن اكتشف أصحابه وأجواره أنها أسلوبه المبتكر لخلق أعمال فنية. إذ كان يستعين بالحقن ليضخ بواسطتها ما يختاره من حبر وألوان في الفقاقيع المراد تلوينها فقاعة فقاعة، متوسّلا في وجه من الوجوه بتقنية البِكْسل آرت، التي تعالج اللوحة جزءا جزءا. والعملية ليست بالبساطة التي نتصوّر، فهي معقّدة، تتطلب جهدا كبيرا ودقّة متناهية في تخيّر الألوان المناسبة، خفيفة أو مركّزة، والفروق الدقيقة بينها، ليمنح لوحته بعدا ثالثا، ولاسيما أن اللوحات التي يضعها برادلي نصب عينيه هي لكبار الفنانين أمثال دافينشي وفان غوخ وماتيس. مثلما تتطلب طول نفس وقوة تركيز وصبرا لا ينفد، ويستغرق منه ما لا يقل عن مئة وخمسين ساعة عمل، لأنه مدعوّ إلى حقن كل فقاعة، ولنا أن نتصوّر معاناته وهو يتناول بورتريه ستيف جوبس الذي يحتوي على ستة عشر ألف فقاعة، حقنها بتسعة وثمانين لونا مختلفا. ولم يكتف برادلي هارت برسم لوحات أولئك الفنانين، بل كان يختار صور بعض الأصدقاء أو مناظر طبيعية، ثم يعمد إلى إعادة تشكيل صور فوتوغرافية لنجوم السينما مثل مارلين مونرو وروبن وليامس ودنزل واشنطن أو البوب ميوزيك كمايكل جاكسون وجون لينون وسواهما. وولد برادلي هارت في تورنتو بكندا، وبدأ منذ صغره يتابع أشغال المؤسّسة العائلية التي تتولى إنشاء مطاعم في سائر أنحاء كندا، فتمرّس في ورشاتها التي تصنع المعدات الخشبية والمعدنية على الرسوم الهندسية والتخطيط. ولما بلغ الحادية عشرة من عمره التحق بمدرسة خاصة هي ثورنتون هول، حيث تلقى تكوينا في الفنون الكلاسيكية بما فيها تقليد أعمال أعلام النهضة. انتقل إثرها إلى جامعة تورنتو التي حصل منها على ماستر في الفنون البصرية ونظرية الاتصال السيميائي إضافة إلى شهادة في الدراسات السينماتوغرافية. بعد التخرج، بدأ ينظم معارض فنية كلاسيكية في مسقط رأسه منذ عام 2001، قبل أن يستقر بنيويورك منذ 2008، حيث يعيش الآن ويعمل. هناك اهتدى إلى هذه الطريقة المبتكرة في تحويل ما لا قيمة له إلى عمل فني، وقد جاءته فكرة تحويل بلاستيك التغليف الذي يستعمله الفنانون في أغلب الأوقات، كما يرويها بنفسه، عقب لقائه بأعوان حراسة أحد المتاحف، فقد كانوا شديدي الحرص على تأمين اللوحات، وتغليفها بعناية بورق الفقاقيع الهوائية، ثم اضطراره هو أيضا إلى استعمال لفيفة كاملة من ذلك الورق خلال أول معرض خاص أقامه في نيويورك عام 2009. ومنذ ذلك الوقت، ما انفكّ برادلي يطوّر هذه التقنية المعقّدة التي تستوجب ابتكارا دائما لأساليب آلية تسمح له بتقديم تصوّرات جديدة، وأعمال أكثر طرافة. وبفضل برمجية أعدّها مع أحد أصدقائه، أمكن له أن يمنح رمزا لونيا لكل فقاعة يناسب الحقنة المشحونة بالدهن. ثم يتولى ضخّ دهن الأكريليك في كلّ خلية من خلايا شريط الفقاقيع، الناتجة عن إعادة تشكيل للصور المختارة على طريقة البكسل. وخلال عملية الحقن، يملأ الفقاقيع بكمية محدّدة من الدهن حتى يفيض الدهن على الجانب المسطّح من ورق الفقاقيع، فتذوب القطرات عند التجفيف ثم تُسحب من البلاستيك. وتتحوّل تلك الطبقة إلى السلسلة الموالية. أما الدهن الجاف، المتأتي من أواني الخلط ومساحات الورشة، كالأرضية ولوحة تحميل الألوان وورق الفقاقيع وورق الوقاية، فتجمع كلها لإنتاج سلاسل يسميها النفايات المهملة، فيقلب الأكريليك على نحو يمكنه من تقليد اللطوخ الطبيعية للسلسة السابقة. قالت عنه ديبورا زافمان مديرة رواق باريسي يحمل اسمها كان عرض فيه برادلي هارت بعض أعماله “يمكن تأويل عمله أساسا بكونه فن المسار، كوسيلة للإقبال على شيء لا قيمة له، والتفطّن إلى ما يحتوي عليه من قيم جمالية مخفية، لا يمكن إبرازها إلّا بالعمل الجاد الدؤوب”.
مشاركة :