برعت الفرنسية المهاجرة جولي كورتيس في خلق عالم خاص بها، تتبدّى فيه نساء بلا وجوه، وشعور كثّة تغطي في الغالب وجوههنّ، وكأنها تريد أن تدفع القارئ إلى اكتشاف ما يخفينه، أو تخيل ما توحي به أعمالها التي تقترب أحيانا من السريالية. لم تتوصل جولي كورتيس إلى فرض حضورها إلاّ بعد أن تجاوزت الثلاثين من عمرها، حيث وجدت أعمالها صدى لدى بعض الأروقة العالمية مثل “وايت كيوب” في لندن وهونغ كونغ، تلك التي تصنع في الغالب مسيرة الفنانين، وتفتح أمامهم أبواب الشهرة، وتسوّق أعمالهم بمبالغ خيالية. رافق ذلك ظهورها في مجلة “فوغ” الفرنسية التي خصّتها بمقالة مطولة، أبرزت فيها خصائص تجربتها الفنية، ودعّمتها بنسخة من إحدى لوحاتها تمثل فتاة معصوبة العينين، مربّعة الذراعين، منكفئة على نفسها في فضاء ضيّق أشبه بقفص عصافير، وكأنها أيقونة حبيسة حجر صحي. مع مديح يتقنه الفرنسيون عن ظهور نجمة من نجمات الفن المعاصر، وهي تتفتّح أمام عيون أزالت النوم عن أهدابها، في تلميح إلى عدم إيفاء كورتيس ما تستحق من اهتمام حين كانت في باريس، وإشارة إلى أن الاعتراف بنجوميتها جاء من خارج فرنسا، من أميركا ثم اليابان. لوحة تقترب من السريالية لوحة تقترب من السريالية ذلك أن جولي كورتيس أقامت قبل الهجرة معارض خاصة في بعض ضواحي باريس مثل صالون مونروج وصالون فيتري سور سين، مثلما ساهمت في معارض مشتركة مثل معرض “الجنس الرابع” الذي أقيم بباريس، كما أنها حازت دبلوم الفنون الجميلة في العاصمة الفرنسية عام 2006 وفازت بجائزة مكنتها من مواصلة دراستها في معهد شيكاغو للفنون طيلة نصف عام، ولكنها لم تنل ما نالته بعيدا عن فرنسا. في شيكاغو تعرفت على الفنان كلينتون كينغ وصارت زوجته، تقاسمه الإقامة في بروكلين بنيويورك حيث استعانت بالمواقع الاجتماعية والتقنيات الحديثة للتعريف بمحاولاتها، حتى بدأت تلفت الانتباه، ما مكنها من التعاون مع بعض الفنانين الأميركان العالميين، مثل كاوز أحد نجوم الستريت آرت في الولايات المتحدة، وجيف كونس سيّد المبيعات الفنية في العالم، ولكن المعرض الذي أقامته في غاليري أنطون كيرن، أحد تجار الفن البارزين في الولايات المتحدة، هو الذي سوف يقدّمها للجمهور العريض ويساهم في تكريس تجربتها الناشئة. هذه التجربة التي تحوم حول النساء في فضاءاتهنّ الحميمة، ولكن بالتركيز على الشعر، مسرَّحا أو مضفورا، مع إخفاء الوجه بشكل لا يظهر من ملامحه أي أثر، كما في لوحة “درقة” حيث تبدو المرأة من خلف، ملفوفة بشعرها البني معقوصا بمشدّات، والجيد قائما، ولا أثر لخصلات نافرة، ما يجعل اللوحة أشبه بعمل تجريدي. أو في لوحة “ثلاثي” التي تبدو فيها فتيات ثلاث يفلين شعورهنّ في نوع من الوداعة السلبية، ولكن بكثير من الرقة والحنان، وكأن كورتيس تدعو متلقي لوحتها إلى سبر دواخل شخصياتها، بجعل الشعور الكثة مكانا حريريا تتخبّأ فيه الإيروسية، أو الأسرار الدفينة التي لا يكتشف كنهها إلاّ من يحسن فتح مغالقها، أي ذلك الذي يمتلك مهارة الغوص والبحث. فكورتيس إذ تلح على رسم الأصابع والأيدي وحتى الأظافر بدقة متناهية إنما غايتها أن تجعل منها وسائل للتنقيب في القلب بخاصة، وفي الجسد بعامة، ولكن بأناة ولطف. في أعمال كورتيس صدى لتجربة الأميركية كريستينا رامبرغ (1946-1995) من جهة لمسة الفرشة وطريقة استعمال الألوان، فهي لا تستخدمها كمشرط يشرّح الظاهر لينفذ إلى الباطن، بل تتوقّف عند المظهر الخارجي، الشعر بدرجة أولى، وكذلك بعض مظاهر الهندام كالأقمصة والأحذية الطويلة، وكأن الفن عندها ينقفل على الكائنات كمحّارة، تحجبها وتصونها. في الشخصيات التي ترسمها كورتيس يتجاور الحسن والبشاعة، ولكن دون بهرج زائد، ولا آثار تشوه من حولها، ولا مآس والمعروف أن رامبرغ كانت عضوا في حركة تصويريي شيكاغو التي تضم جيم نوت، وغلاديس نيلسون، وروجر براون، وإد باشكه، وكانوا يرتادون معهد شيكاغو للفنون في نهاية الستينات. هذه الحركة استلهمت مقاربتها الفنية من السريالية والبوب والتصوير الهزلي. وقد اشتهرت رامبرغ برسومها لأجزاء من أجساد النساء، كالرؤوس والصدور والأيدي، تتخيّلها في أوضاع إيروسية غريبة. وجملة القول إن أعمال جولي كورتيس تتّسم بالرقة والبرود، فشخصياتها التي لا وجوه لها توحي بأن لها شيئا تريد إخفاءه عن العيون، شيئا يبعث على الشك والريبة، ولكن لا يبدو عليها أنها تهتم لذلك أو تحمله محمل الجدّ. فهي تعيش غرابتها في انسجام، ولا تسعى لإزعاج أحد، أو إخافته، وكأنها راضية بوضع تراه مريحا بما فيه الكفاية. في تلك الشخصيات يتجاور الحسن والبشاعة، ولكن دون بهرج زائد، ولا آثار تشوّه من حولها، ولا مآس. هي إذن تجربة فنية تنحو إلى السريالية في جمعها بين المتناقضات، إذ تقع بين الحلم (وحتى الكابوس) والواقع، وبين الليّن والصلب، الحاد والمستدير، الجزرة والعصا، القريب والبعيد، الجزمة والشفّاطة، شعَر الزرابي والشعور المتموّجة.
مشاركة :