لم اعتد التعليق على أي قضية أو جدلا يثار على منصات ومواقع السوشيال ميديا، وليس هذا لسبب محدد غير أني أرى أسلوب روادها في تناول الموضوعات والتعليق عليها أشبه بسائق غير ماهر يقود عربة مجنونة، وعاء شديد الغليان، فالقضية الذي تشرع في تحليلها مساء تتبخر في الصباح لتبدأ غيرها في الغليان. أمواج متلاحقة في حركة زئبقية، تحليل، رفض، موافقة، وتنمر في بعض الأحيان، وكل قضية عمرها ساعات ليس أكثر، لا دور للعقل فيها، بينما تمارس أصابع اليد دور البطولة وجميع الأدوار الثانوية، يصدرون أحكام بالقتل، حتى دخول الجنة والنار، و صكوك الغفران يوزعونها أيضا.وأنا لا أستغرب ذلك على أشخاص عاديين يرغبون في الشهرة وجمع اللايك والشير، أو إضاعة الوقت، لكن ما استغربه حقا هو انجرار بعض الشخصيات العامة والفنانين، "كنا نتوسم فيهم قدرا من الثقافة والذكاء"، ودخولهم في تلك الدوائر الكلامية، يعلقون، يغضبون، ويتشنجون، ثم يتحولون إلى جزء من صراع ينال من نجوميتهم ورصيدهم لدى الجماهير، لكن يبدوا أن المشكلة عامة لدى الجميع.ولو طالع أحدًا من هؤلاء كتاب "العادات السبع للناس الأكثر فعالية " للكاتب الأمريكي ستيفن كوفي، وقرأ بشيء من الفهم في مقدمته هذه السطور." إن حاجتك لأن تكون مفهومًا هي من بين عدد قليل من الحاجات الإنسانية الأساسية - وتعني هذه الحاجة أن يكون صوتك مسموعًا وتُحترم كلمتك، وتكون ذا قيمة وتكون مؤثرًا . ويعتقد معظم الناس أن التواصل هو مفتاح التأثير - أن تصل إلي مقصدك بوضوح وأن يكون كلامك مقنعًا . وفي الحقيقة عندما تفكر في الأمر ألا تجد أنه عندما يتحدث الآخرون إليك فإنك لا تكون مصغيًا لهم ، وتفهم ما يقولون لأنك غالبًا ما تكون منشغلا بإعداد ردك . إن البداية الحقيقية للتأثير تحدث عندما يستشعر الآخرون تأثرك بهم - عندما يشعرون أنك تفهمهم - وأنك كلك آذان صاغية وأنك متفتح، ولكن معظم الناس لا يستطيعون الإصغاء بعمق ، ولا يستطيعون تعليق جدول أعمالهم لفترة طويلة بما فيه الكفاية لفهم ما يقال قبل أن يحاولوا التعبير عن أفكارهم. ولكن ثقافتنا تطالب بل هى في حاجة ماسة إلى الفهم والتأثير. ومع ذلك فإن مبدأ التأثير خاضع للفهم المتبادل المتمخض عن التزام شخص واحد على الأقل بالإنصات " ....لأدرك أن تلك العبارات البسيطة لخصت أزمتنا الكبرى " عدم الإنصات " لا أحد يسمع أو يرغب في فهم الآخر، أو يفكر خارج حدود اللحظة التي يعيشها، الجميع مشغول فقط بعرض رأيه، دون التفكير فيما سمع.نحن نعيش حالة مفزعة من الاحتقان الاجتماعي، الغريب أنه كلما تعددت وسائل التواصل، ازداد تنافر الأفكار، فنحن لا نهتم بما نسمع قدر اهتمامنا بمن نسمع، ونختار الأشخاص الذين نحاول فهمهم حسب شروط معينة " جنسه – توجهه – وظيفته – وضعه الاجتماعي - مدى حبنا وكرهنا له ". لقد قلت رغبتنا في التعلم والفهم بشكل مخيف، وأصبحنا نسعى لاختزال كل شيء، وتحولنا إلي آلات تنفذ مهمة دون إدراك غايتها على حساب العقل والإنسانية، وهذا ما بيِّنه الكاتب نصًا في فقرة أخرى قال فيها مستشهدا بقول إريك فروم : " أصبح إنسان اليوم يتصرف مثل الإنسان الآلي الذي لا يعرف نفسه ولا يفهمها، والشخص الوحيد الذي يعرفه هو الشخص الذي من المفترض أن يكون عليه، والذي حلت لديه الدردشة عديمة المعنى محل الحديث التواصلي، وحلت ابتسامته المصطنعة محل الضحكة الراقية التي تخرج من القلب، واستبدل الألم الراقي بإحساس من اليأس الممل . وهناك عبارتان يمكن وصف هذا الفرد بهما ؛ الأولى أنه يعاني من عيوب في التعامل بتلقائية وعيوب في شخصيته والتي تبدو غير قابلة للعلاج . وفي نفس الوقت يمكن القول إنه لا يختلف اختلافا أساسيًا عن ملايين البشر الذين يعج بهم الكون " .فهل نتوقف قليلا لنعطي عقولنا فرصة لمد جسور التواصل، أم نظل متمسكين بعاداتنا الأكثر تعطيلًا ؟؟
مشاركة :