وداعـــــاً ســـــعود الفيصــــــل

  • 7/14/2015
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

سعود الفيصل الذي أحبه الناس وتابعوه حاضراً وحزنوا عليه ميتاً، لم يكن راحلاً عادياً عن الدنيا، أو وزيراً يذهب في تشكيل وزاري ليأتي غيره، إنه شخصية مختلفة، شخصية تُعدّ من أبرز الأسماء في تاريخ الدبلوماسية العربية والدولية، لم يهدأ ولم يتوقف عندما اشتدّ عليه المرض وأثقل كاهله، بل استمر متنقلاً في بقاع الأرض حاملاً وشارحاً سياسة وطنه ومبادئ ومصالح أمته العربية والإسلامية، وسيبقى سموه رحمه الله رجلاً لن يتكرر في التاريخ، وستظل حياته صفحات مضيئة وأيام ولحظات محفورة ومستقرة في أعماق قلبي منذ بدأت عملي الدبلوماسي سكرتيراً ثالثاً بوزارة الخارجية في ذات الفترة التي تولَّى فيها سموه منصب وزير الخارجية قبل أربعين عاماً وحتى تقاعدي في مارس المنصرم، عاصرته وشاهدته واستمعت إلى مداخلاته ومفاوضاته وأحاديثه خلال المئات من الاجتماعات الخليجية والإسلامية والدولية، تلك الاجتماعات التي سجَّل فيها حضوراً لافتاً ورصيداً دبلوماسياً وسياسياً ضخماً يصعب على غيره من وزراء خارجية العالم بأجمعه الوصول إليه، وسطَّر سجلاً حافلاً بالمواقف السياسية المشرِّفة التي أبهرتني كما أبهرت العالم لما اتسمت من القوة والحكمة والذكاء الذي فاق التصور، حاملاً رسالة بلاده للعالم ومدافعاً عن قضاياها ومواقفها بثقة ومرونة وقوة إن احتاج الموقف. في بداية حياته العملية شغَل سعود الفيصل منصب (وكيل وزارة البترول والثروة المعدنية)، ليُعيَّن بعدها وزيراً للخارجية بعد وفاة والده المغفور له الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود عام 1975م وخلفاً لوزير الدولة للشؤون الخارجية معالي السيد إبراهيم السويلم، ليصبح سموه أصغر وزير للخارجية على المستوى العربي والعالمي، وكان تعيينه في وقت مهم وحسّاس جداً، حيث كانت بدايات استقلال إمارات الساحل العربية المتصالحة التي تعرف الان (الامارات العربية المتحدة) والبحرين وقطر والمطلة جميعها على السواحل الجنوبية للخليج العربي، ودخولها كدول أعضاء في الأمم المتحدة والجامعة العربية، وبدء الإعداد لتأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية ووضع نظامه الأساسي في ثمانينيات القرن الماضي والذي كان بمبادرة كويتية برزت نتيجة للحرب العراقية الإيرانية وتداعياتها الأمنية على دول المنطقة، والتى حتَّمت الحاجة إلى قيام كيان خليجي موحَّد يقف أمام المخاطر التي تهدد سيادته واستقلاله؛ خاصة بعد الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية الثلاث غداة الانسحاب البريطاني في أواخر الستينيات. تظل مواقف سمو الأمير سعود الفيصل رحمه الله تجاه القضايا العربية تاريخية وواضحة التأثير على سير الأحداث وتطوراتها في المنطقة العربية، ومن أبرزها الحرب العراقية الإيرانية، والغزو العراقي على الكويت، والحرب الأهلية في لبنان، واتفاق الطائف، والصراع العربي الاسرائيلي، والأزمة التي كادت أن تعصف بمجلس التعاون عام 2014م بسبب مواقف دولة قطر تجاه الإخوان المسلمين في مصر وتجنيس البحرينيين. إلا أن مواقفه مع مملكة البحرين تظل متميزة وتعطي الدليل القاطع على عمق العلاقات الأخوية وتجذرها بين القيادتين والشعبين البحريني والسعودي، والتي من الصعب محوها من ذاكرة وتاريخ الأمم والشعوب، خاصةً إبان الأحداث التي شهدتها البحرين عام 2011م، فقد كان له الدور الكبير والمؤثر في اتخاذ قرار دخول قوات درع الجزيرة إلى البحرين في (15 مارس 2011م) لحماية المنشآت والبلاد من أي خطر خارجي بعد أعمال الفوضى والإخلال بالأمن الذي سعت إليه الجمعيات السياسية المعارضة. لذلك يعتبر سعود الفيصل شخصية استثنائية بالنسبة لشعب البحرين الذي لن ينسى مواقفه الحازمة وهو يحمل همومها ويدعم مواقفها طوال حياته في كل اجتماعاته ولقاءاته الدولية والعربية، وقد عبَّر معالي الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة وزير خارجية مملكة البحرين عن تلك المواقف المشرفة بالقول: ان سمو الأمير سعود الفيصل رحمه الله كان وزيراً لخارجية البحرين لاهتمامه ودفاعه المستميت عنها وعن مصالحها وسيادتها وأمنها في كل محفَل. خاض سموه معارك ومواقف سياسية كبيرة ممثلاً لبلاده ومدافعاً عن حقوقها، وعاصر وعايش تفاصيل كافة الأزمات والمشاكل العربية، ولديه أدق أسرار وخفايا العلاقات الخليجية الخليجية وقصص الصراع العربي العربي والصراع العربي الإسرائيلي، حيث لعب أدواراً تاريخية مهمة، وشارك في اتخاذ الكثير من القرارات المصيرية التي كان لها تأثيراً كبيراً على سياسة المملكة العربية السعودية الداخلية والخارجية وعلى مستقبل العمل العربي المشترك؛ فكان بحق أمير الدبلوماسية العربية وفارسها المحنَّك لعدة اعتبارات منها: 1. أعطى النظام السياسي في المملكة العربية السعودية الأمير سعود مساحة كبيرة ودوراً فاعلاً في تحديد مرتكزات السياسة السعودية الخارجية في إطار ثقلها السياسي والاقتصادي والديني التي كرَّسها سموه لخدمة المصالح الوطنية للمملكة. 2. التوظيف الدقيق والأداء الناجح لاستراتيجية الاقناع عند تناوله النقاش أو المداخلة في خطابه السياسي وتحركه الدبلوماسي الذي يقوم أساساً على تجاربه العلمية والعملية. 3.خبرته السياسية الواسعة ووسامته والتزامه بفكرة التواصل الفكري بشأن القضايا التي يتحدث عنها. لذلك، فمهما تحدثنا عن سمو الأمير سعود الفيصل فهو رجل لن يتكرر في تاريخ السياسة والدبلوماسية العربية والعالمية، فقد مثَّل الدبلوماسية السعودية بمنهجها وتراثها العربي والإسلامي الأصيل، وعبَّر عنها في العديد من المواقف والمساجلات والكلمات والخطب الحاسمة، أذكر منها عندما قرَّر رحمه الله سَحب اسم المملكة من قائمة المتحدثين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعدم إلقاء خطابها السنوي المعتاد في (سبتمبر 2013م)، ورفضه أن تكون السعودية ممثلاً للمجموعة العربية كعضو غير دائم في مجلس الأمن الدولي وذلك في وقفة احتجاجية شجاعة وغير مسبوقة أرجعها لفشل الأمم المتحدة في تحقيق أهداف ميثاقها منذ سريانه في أكتوبر 1945م في الحفاظ على الأمن والسلام العالميين ومنع الحروب وإنهاء الصراعات، وعلى وجه التحديد فشلها في إيجاد حل لقضية العرب الأولى (فلسطين) التي مضى عليها أكثر من ستين عاماً، والأزمة السورية التي مازال شعبها يعاني من القتل والدمار، وغيرها من قضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية والأمن الغذائي والبيئي وغيرها. وها هو فارس الدبلوماسية العربية يغادر الحياة في (22 رمضان 1436هـ) بعد مسيرة تاريخية ملؤها الشموخ والعزة والكرامة، وقبل رحيله بقليل وبالتحديد في (مارس 2015م) أراد أن يذكّر العالم في لقائه المفتوح بمجلس الشورى السعودي بمرتكزات سياسة بلاده الثابتة عندما قال بالنص:... ان سياسة المملكة الخارجية مبنية على ثوابت محددة أهمها: الانسجام مع مبادئ الشريعة الإسلامية، وخدمة الأمن والسلم الدوليين، مع الالتزام بقواعد القانون الدولي والمعاهدات والمواثيق الدولية واحترامها، وبناء علاقات ودية تخدم المصالح المشتركة مع دول العالم، تقوم على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وذلك في إطار خدمة مصالح الوطن وحمايته والحفاظ على سلامة أراضيه واستقراره ونمائه، ورعاية مصالح المواطنين، وإعلاء شأن المملكة ومكانتها في العالم.... هذا هو سعود الفيصل الذي كان صوتاً من أهم الأصوات في الدبلوماسية العربية وصوتاً عالمياً تجاوز الحدود، يترجَّل ويغادر الدنيا في مرحلة من أصعب المراحل في تاريخ بلاده والوطن العربي أجمع، تاركاً خلفه تاريخاً حافلاً بالانجازات السياسية والدبلوماسية وعيوناً وقلوباً تحبه، وذكريات وابتسامات وتعليقات ومداعبات كانت تضفي الدفء والبساطة على الاجتماعات والمؤتمرات التي يحضرها، ولابد أنه سوف يترك فراغاً كبيراً من الصعب على أحد أن يملأه. رحم الله سعود الفيصل وأسكنه فسيح جنانه، رحم الله الرجل الذي عاش طوال الأربعين عاماً محلقاً بـ (طائرة أرامكو) التي اتخذها مكتبه وسريره وهو يتنقل بين عواصم العالم حاملاً قضايا بلاده وأمته بكل إخلاص وتفان، فقد كان مؤمناً بأن كل ما حوله من أحداث وقضايا لا تحتمل التأجيل، وأن العمر يقاس بالدقائق وعقارب الساعة لا يمكن أن تعود إلى الوراء. وليس في منتهى مقالي هذا أصعب من أن أقول: وداعاً سعود الفيصل يا من سيظل ذكراه نبراساً خالداً يعطر تاريخ الدبلوماسية العربية والعالمية بإخلاصكم وتفانيكم وولائكم لوطنكم ولأمتكم العربية والإسلامية. * المحلل السياسي للشؤون الإقليمية ومجلس التعاون

مشاركة :