رحيل الكبار دومًا يكون له وقع غير عادي. رحيل الأمير سعود الفيصل، عميد الدبلوماسية العربية بلا نزاع، ينطبق عليه هذا القول. رحل سعود الفيصل عن عالمنا بعد مسيرة عظيمة من العطاء والعمل والإنجازات جعلته ينال مكانة أكثر من استثنائية، واحترامًا غير بسيط من لدن الأعداء قبل الأصدقاء. لقد جعل الأمير سعود الفيصل من الدبلوماسية إحدى أهم القوى المؤثرة والفعالة لبلاده مثلها مثل سلاح النفط على الساحة الاقتصادية العالمية. أتقن أسلوب الحوار والمباحثات بشكل استثنائي وغير عادي، وهو أسلوب يعكس بشكل دقيق شخصية الراحل. الأمير سعود الفيصل كان حكيمًا، عميقًا، صبورًا، جلدًا، ذكيًا. كان يستخدم هذه الصفات في عمله بشكل متنوع ومهم في عمله، فهي كلها مهارات وأدوات يضاف إليها أنه كان قارئًا نهمًا ومطلعًا على ثقافات الأمم، أتقن سبع لغات بطلاقة. كان لديه الأسلوب الحاد والساخر في الرد على معارضيه ومخالفيه، أو في التعليق على بعض المواقف السياسية المريبة. من منا ينسى تعليقه على رئيس الوزراء الإسرائيلي صاحب السجل المرعب في إراقة الدماء والقتل والإرهاب أرييل شارون عندما دنس المسجد الأقصى بدخوله إليه مستفزًا العالم الإسلامي بأسره، وقال بابتسامة خبيثة «أنا داعية سلام»؟ فما كان من الأمير الراحل سوى القول: «أعتقد أن شارون نفسه لا يصدق ما قاله». وفي مناسبة أخرى كان سعود الفيصل أول المتصدين لحركات الزعيم الإرهابي لميليشيا حزب الله في لبنان، وسمى ما يفعله بالمغامرات التي يدفع لبنان والمنطقة ثمنها، فما كانت إلا أيام ليظهر الإرهابي حسن نصر الله كعادته على الشاشة ليعبر عن ندمه ويقول لو كنت أعلم الخسائر التي سيتحملها لبنان لما أقدمت على ما عملته. سعود الفيصل خاض ملاحم ومعارك مع دول عظمى ودول شقيقة ودول معادية، استغل فيها علمه وعلاقته بشكل استثنائي حتى باتت الدبلوماسية السعودية كلها عليها بصمة الراحل بامتياز. عاصر مرحلة الحرب الأهلية اللبنانية وتبعاتها وساهم بشكل مركزي في صناعة اتفاق الطائف الشهير الذي ساعد على عودة الحياة الطبيعية وإنهاء الحرب بين الفرقاء، وكان محوريا في صناعة التحالف الدولي في التعامل مع غزو صدام حسين للكويت وتحريرها من بعد ذلك، وكذلك حضر تبعات غزو العراق وما تلا ذلك من تبعات مهمة جدا، وكان من كبار المحذرين من نمو الأصابع الإيرانية وتوغلها في الشأن العربي بشكل خطير، وهي التي تحولت إلى مشاهد دموية في أكثر من بلد عربي كما بينت لنا بعد ذلك أحداث الثورات العربية، وخصوصا في لبنان وسوريا واليمن والبحرين التي كان للحراك الإيراني فيها بصمات دموية لا يمكن إغفالها أبدا. تحول سعود الفيصل مع مرور الوقت إلى مصدر ثقة واطمئنان خلال مشاركاته وظهوره في المحافل والمناسبات الدولية، وكان في كثير من الأحيان تتم استشارته في شؤون لا علاقة له بها، وذلك من قبل دبلوماسيين دوليين مرموقين من باب ثقتهم في الرجل ورجاحة عقله وتفكيره. حجم المحبة والحزن والتفاعل العفوي مع خبر وفاة الأمير الراحل هو دلالة قطعية على المكانة الاستثنائية التي وصل إليها وحاز فيها احترام الناس ومحبتهم عبر مشوار طويل، كانت فيه الجدارة والمصداقية والدقة والنزاهة والأمانة والمسؤولية والاعتمادية هي العناوين المضيئة لمرحلته التي لا تنسى. قلوب وألسنة الناس تدعو له بالرحمة، ودموع تبكي رحيله، والكل يتذكر صراعه مع الألم ومعاناته مع حالات المرض التي عانى منها، ومع ذلك كان كالصقر الأصيل حاضرًا ومدافعًا عن قضايا وطنه. رحم الله سعود الفيصل رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، وغفر الله له وألهم أهله ومحبيه الصبر والسلوان و«إنا لله وإنا إليه راجعون». وداعا سعود الفيصل.
مشاركة :