وداعا .. دكتور الهاشمي

  • 7/13/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

اغتالت يد الغدر الآثمة مساء اليوم الاثنين 1441/11/15ه، الموافق 2020/7/6م، في بغداد بحي الزيتونة، الدكتور هشام الهاشمي، المؤرخ الباحث المتميز، المحلل السياسي المتمكن والخبير الأمني والإستراتيجي الضليع؛ الذي اشتهر بكتاباته عن الشؤون السياسية وتنظيم الدولة الإسلامية والدور التخريبي للفصائل والمليشيات التي تدعمها إيران - التي حلت محل الجيش العراقي الذي كان رابع أقوى جيش في العالم أيام صدام حسين - وتتخذ منها حصان طروادة لخراب المنطقة وتفكيكها وتحويلها إلى ساحة مكشوفة لتصفية الحسابات مع القوى الدولية، لاسيما بلاده العراق وبلاد الشام. أجل، امتدت يد الغدر الآثمة لاغتيال هذا الرجل الذي يعد كنزا وطنيا ثمينا كما وصفه السفير الأمريكي في العراق، الأمر الذي جعله أحد صناع الرأي العام على الساحة السياسية في العراق بشهادة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، الذي تَّمت الموافقة على تكليفه بعد مخاض عسير، عاشت الدولة العراقية خلاله فراغا دستوريا صب الزيت على النار، مما ساعد في تعقيد الوضع المتأزم أصلا فيبلد الرشيد الذي تحول إلىطائر كسير جريح للأسف الشديد. ولأن الدكتور الهاشمي المغدور كان كنزا وطنيا بامتياز، طالما حل باستمرار ضيفًا على القنوات الفضائية بمختلف أطيافها وتوجهاتها السياسية،محللاًًًًً سياسيا وإستراتيجيا وخبيرا أمنيا وباحثا صحفيا وناشط سلام، ساهم كثيرا في إثراء الحوارات السياسية والأمنية. ولهذا كان رجلا منفتحا على الجميع، ومرجعًا مهمًا لوكالات الأنباء ووسائل الإعلام الدولية، إضافة لتقديمه المشورة للحكومة العراقية، بصرف النظر عن لونها السياسي الذي لم يكن ليخرج عن طوق إيران، بشهادة كثير من الإخوة العراقيين حتى من المحسوبين على إيران في الجنوب، لأنه الأول والأخير كان هو مصلحة بلاده ومصلحة العرب والمسلمين. وبجانب تمكنه العلمي، كان الهاشمي صاحب خلق رفيع، وأدب جم، وصدر رحب، لم يسمع منه أحد قط كلمة نابئة أو عبارة جارحة، بل لم يكن الرجل ليرفع صوته أبدًا، يحدثك بأدب وكأنك أنت المتحدث وهو السامع، وهذا لعمري من شيم العلماء، ولا يسمح لأي شيء أن يثير حفيظته حتى إن سبه أحد أو شتمه أو اتهمه بما ليس فيه، إذ كان مبدؤه دائما يقول: الكلمة الصادقة هي أمضى سلاح في وجه الأعداء وأكثر ألما؛ بخلاف كثيرين ممن يدعون المعرفة والخبرة، فيحلون ضيوفا على القنوات الفضائية مدفوعين بدولارات إيران وغيرها من دول التآمر على المنطقة؛ وما أن يبدؤوا النقاش حتى يقعد بهم علمهم القاصر، ويعجز منطقهم، ويتبدى للعيان فقر لغتهم، فيلجئون لمنطق العاجز كعادتهم دائمًا: السب والشتم ورمي التهم جزافًا لتوصيل أفكارهم الملفقة، وعندما تتقطع بهم السبل يلجئون للعراك والاشتباك بالأيدي على الهواء مباشرة، لا يردعهم خلق كريم مثل خلق الدكتور الهاشمي، ولا احترام للمشاهدين، لأنهم تجار وليسوا أصحاب مبادئ، ثم يلملمون أوراقهم المبعثرة مثل أفكارهم، وينسحبون وهم يجرون أذيال الخيبة. ولهذا نعى زملاء الدكتور الهاشمي الفقيد المغدور على القناة نفسها التي كان يفترض أن يحل الهاشمي ضيفا عليها بالدموع والعبرة تخنق أصواتهم وآهاتهم المحبوسة والحسرة تكسو محياهم. وعلى كل حال، لا يفوتني هنا أن أشكر تلك القناة التي خصصت الوقت الذي كان يفترض أن يكون فيها الهاشمي ضيفا عليها لنعيه وذكر محاسنه على مدى ساعتين.. فهكذا يكون الوفاء لأصحاب العطاء مثله. والحقيقة، لا تربطني بالدكتور الهاشمي رحمه الله سابق معرفة، بل هي زمالة المهنة، واتفاق الرؤى حول كل ما يثير القلق في المنطقة ويحاك من مؤامرات بأمتنا، إضافة لنزاهته وحياده وتمسكه بمبادئه وإخلاصه لبلاده ولأمته. وإصراره على عدم رهن فكره وقلمه وصوته لأي جهة غير الحقيقة.. والحقيقة فقط. وإن كنت أشكر السفير الأمريكي في الواقع الذي وصف الهاشمي بهذا الوصف المستحق، إلا أنني استغرب هذا البرود والإهمال الذي وصل حد عدم مطالبته الحكومة العراقية بإجراء تحقيق لمعرفة الجناة وتقديمهم للعدالة، مع أنه ثمة شواهد كثيرة أكدت أن الدكتور الهاشمي تلقى تهديدات كثيرة، أشهرها وأكثرها جرأة ووضوحا، ذلك التهديد الصريح الذي ورده مرارا من أبو علي العسكري، المسؤول الأمني لمليشيات كتائب حزب الله في العراق، الذي قال له بالحرف في آخر رسالة تهديد قبل أسبوعين من تنفيذ وعيده عبر الهاتف: (سوف أقتلك في منزلك). وبالفعل، نفذ إرهابي حزب الله الذي يعمل لصالح إيران تهديده، لكن المفارقة أن ذلك حدث عند نقطة تفتيش أمنية، يفترض أن فيها آلات مراقبة حديثة ومسؤولين أمنيين. وقد شاهد العالم أجمع أولئك الإ هابيين يأتون على دراجات نارية، ثم يمطرون الهاشمي بوابل من الرصاص، وهم يعملون على مهل، مما يدل على تواطؤ الجهات الأمنية. قلت: استغرب عدم تجاوب السفير الأمريكي في العراق مع هذه الفاجعة التي هزت الضمير الإنساني في كل مكان، ودفعت محدثكم لكتابة هذا المقال، من استهداف شخصية بأهمية د. الهاشمي لمن يعرفه، إلا أن استغرابي سرعان ما تبدد عندما تذكرت تلك الفيديوهات العديدة التي طفحت بها الميديا إثر تبادل الاتهام بين الصين وأمريكا، وكثرة الهرج والمرج فيما يتعلق بفيروس كورونا؛ إذ اتفق كل من تحدث في تلك الفيديوهات من الأمريكيين (الأصليين) على السخرية من هذا العالم المغ َّفل، الذي ما زال غارقا في الوهم، معتقدا أن أمريكا دولة حرية وسلام وعدالة وحقوق إنسان، تسعى لخير البشرية، مؤكدين أن مواطني أمريكا اليوم جاءوا من كل فج عميق، فقتلوا الهنود الحمر، أصحاب الأرض الأصليين، بل أبادوهم عن بكرة أبيهم ثم استوطنوها، وأن حادثة بيرل هاربر كانت مؤامرة داخلية لتمكين أمريكا من دخول الحرب العالمية الثانية وتثبيت حظها من الغنائم، وأستهداف برجي التجارة في منهاتن في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، كان أيضا مؤامرة أمريكية داخلية لاختلاق فزاعة الإرهاب للسيطرة على الشرق الأوسط، وأن كورونا أيضًا مؤامرة أمريكية لشل اقتصاد العالم وتعطيل قدرات دول منافسة بقوة كالصين والهند، ومن قبل الكورونا الإيدز والإيبولا... و... و... إلخ، من قائمة طويلة عريضة من المؤامرات السابقة واللاحقة التي ما تزال تطبخ على نار هادئة. وقد سبق أن حذرت في معظم مقالاتي التي نشرتها في مختلف الصحف المحلية، من نظرية المؤامرة التي طالما روج لها دعاة التغريب، وهذا الاتفاق المبطن بين أمريكا وإيران لابتزاز المنطقة واقتسام الكعكة، وإلا ما الذي منع السفير الأمريكي من مجرد قول كلمة الحق في المؤامرة التي استهدفت د. الهاشمي، على الأقل من أجل حفظ ماء الوجه. وقطعا إن حدث مثل هذا عندنا لا سمح الله، لقامت الدنيا ولم تقعد حتى قبل مواراة جثمان القتيل الثرى. والأمثل كثيرة، فقد اتهمونا بمؤامرة أحداث سبتمبر 2001، التي تم إعدادها في المطبخ الأمريكي، كما يؤكد كثير من الأمريكيين اليوم، حتى قبل أن تخمد النيران ويسكن الدخان. وصحيح، الهاشمي لم يكن أول ضحية لهذه المؤامرة التي تم تخطيطها والاستعداد لها منذ زمن على مهل، إذ تمت تصفية عباقرة العراق كلهم وعلماؤها منذ اجتياح العراق عام 2003 حتى اليوم، ممن رفضوا الذهاب إلى أمريكا والعيش هناك، ومن ثم توظيف علمهم لخدمتها.. تماما كما فعلت مع العلماء والعباقرة الألمان في نهاية الحرب العالمية الثانية. وعليه، أتمنى صادقا أن نكون نحن العرب، قد اقتنعنا اليوم تماما بما يحاك ضدنا من مؤامرات تستهدف عقيدتنا وثرواتنا، بل تستهدف وجودنا كله، فنؤسس لعمل مشترك بحجم المؤامرة، يكون قادرا على كف الأذى عنا بعد أن فقدنا الأمل في جامعتنا العربية، التي طالما نعت إلينا نفسها في كل موقف كان بمثابة اختبار لأدائها الهزيل. ألا رحم الله الفقيد الدكتور هشام الهاشمي، وغفر له، وجعله في الفردوس الأعلى، وألهم أهله وذويه ومحبيه وبلاده والعرب والمسلمين، الصبر والسلوان، فقد كان رحيله بهذه الطريقة البشعة، وهو ما زال في منتصف العمر وق َّمة العطاء، مؤلما لكل من له ذرة في وجدانه من الإنسانية. ومع رحيله السريع، إلا أنه ترك ثلاثة كتب وأكثر من نصف مليون مقالة وبحث منشور في الصحف والمجلات المحلية والإقليمية والعالمية.. لقد كان الفقيد فارسا مغوارا، تصدى للسهام والرماح التي استهدفت الأمة بصدر عار، وأقل شيء في حقه علينا اليوم، أن نشيد بجهده، ونذكر محاسنه، وندعو له بالرحمة والمغفرة.

مشاركة :