معركة نزع سلاح الميليشيات في العراق، تظلّ على الرغم من أهميتها القصوى في سياق أي محاولة جادّة لاستعادة هيبة الدولة العراقية وترميم سلطتها المتآكلة، غير مضمونة النتائج إذا لم يجر الحدّ من تغلغل الأذرع السياسية لتلك الميليشيات في نسيج الدولة ومراكز قرارها، ومنع وصولها إلى مواردها المالية وتوظيفها لمصلحتها، وهي معركة بالغة الصعوبة والتعقيد، لكن خوضها يظل ممكنا باعتماد طول النفس والتدرّج واللعب على المتغيّرات. بغداد - تترسّخ على نحو لافت في العراق فكرة استعادة هيبة الدولة المتآكلة بشدّة خلال فترة حكم الأحزاب الدينية، وتتحوّل إلى مشغل رئيس لدى العديد من المثقفين والسياسيين العراقيين، لكنّ عددا من الأحداث أظهر في المقابل صعوبة تجسيد الفكرة على أرض الواقع ومدى ما يواجه تطبيقَها من عوائق وتعقيدات. ويرى سياسيون وقادة رأي عراقيون في ضبط فوضى السلاح مدخلا مناسبا وطريقا مختصرا لاستعادة الدولة لهيبتَها المفقودة، لكن عدّة وقائع أثبتت أن المشكلة أعمق من مجرّد وجود السلاح بأيدي المدنيين والميليشيات، وتتمثّل في تغلغل تلك الميليشيات ذاتها في نسيج الدولة بحيث يكون لها جناحان متكاملان؛ سياسي وعسكري يتبادلان التخادم في الاتجاهين بأن يمنع الشق الأول اتخاذ قرارات وسنّ تشريعات تصبّ في اتجاه حصر السلاح بيد الدولة، بينما يحمي السلاحُ ذاتُه السياسيين المدافعين عنه ويحفظ مصالحهم ويمنع خضوعهم للمساءلة وتطبيق القوانين عليهم، بل يساعدهم في فرض رؤاهم وتعليماتهم في ما تتّخذه الدولة من قرارات وما تضعه من سياسات. وقد كان التداخل بين العمل السياسي والنشاط المسلّح سمة مميّزة لأغلب الأطراف التي قادت العملية السياسية وخاضت تجربة الحكم في العراق بعد سنة 2003، بحيث يصعب التمييز بين حزب وميليشيا، وبين قائد سياسي وزعيم ميليشياوي، لكنّ الظاهرة أخذت طابعا أكثر تنظيما وأشدّ تأثيرا في مسار الدولة العراقية أثناء الحرب على تنظيم داعش وبعدها والتي شاركت فيها الميليشيات الشيعية المنضوية ضمن ما عرف بالحشد الشعبي بفعالية قصوى واكتسبت خلالها “مشروعية محاربة الإرهاب واستعادة الأرض وبسط الأمن والاستقرار”. وتجسّد الاستثمار في هذه “المشروعية” بشكل عملي خلال الانتخابات التشريعية التي أجريت في شهر مايو من سنة 2018 وتقدّم الحشد الشعبي للمشاركة فيها عبر تحالف حمل اسم تحالف الفتح بقيادة هادي العامري زعيم منظمة بدر إحدى أقدم الميليشيات الشيعية وأكثرها قوّة ونفوذا في العراق. لقد أقام هذا التحالف دعايته بشكل أساسي على “إنجازات الحشد” في الحرب ضدّ تنظيم داعش بين سنتي 2014 و2017 لينجح بذلك في استمالة قسم هامّ من الناخبين وليحصل على 47 مقعدا من مقاعد مجلس النواب المكوّن من 329 مقعدا ولتصبح ميليشيات الحشد قوّة قرار وتشريع ورقابة على عمل الحكومة بالإضافة إلى حضورها على أرض الواقع كقوّة حاملة للسلاح. ويمكن من هذا المنظور اعتبار الوضع السياسي القائم في العراق حاليا، وما يميّزه من سطوة مزدوجة للميليشيات في مجالي الأمن والسياسة، نتاج الاعتماد في مقارعة إرهاب داعش على طائفية الميليشيات، حيث يظل الحشد الشعبي رغم الحضور الهامشي فيه لفصائل مسيحية وسنيّة محدودة العدّة والعدد، حشدا شيعيا تمّ تشكيله استنادا إلى فتوى دينية من المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني ومثّلت الميليشيات الشيعية القائمة من قَبْلِ تشكيل الحشد مثل عصائب أهل الحق وسرايا السلام، ومنظمة بدر بجناحها العسكري، وكتائب حزب الله العراق، نواته الصلبة. ولم يكن صعود الميليشيات الشيعية إلى أوج سطوتها في العراق، مصادفة بل تزامن مع تهاوي أحد أهم أركان الدولة العراقية وأبرز رمز لهيبتها وسطوتها وقدرتها على السيطرة على مجالها وفرض قوانينها، وهي قواتها المسلّحة التي بلغت سنة 2014 منتهى الإجهاد والتراجع حتى شارفت على الانهيار الكامل في تلك السنة التي غزا فيها تنظيم داعش ما يقارب ثلث مساحة العراق ووقف على مشارف العاصمة بغداد مستغلاّ الحالة المزرية التي وصلت إليها القوات المسلّحة العراقية في فترة حكم زعيم حزب الدعوة الإسلامية رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، وهي فترة تغلغل خلالها الفساد في صفوف القوات العراقية سواء ما يتعلّق بصفقات السلاح الفاشلة والمزوّرة، أو باختيار القيادات العسكرية على أسس واعتبارات غير مهنية من بينها الاعتبار الطائفي والحزبي، أو بانتداب منتسبيها من مختلف الرتّب حيث استشرت ظاهرة الضباط والجنود “الفضائيين” الذين تسجل أسماؤهم شكليا على كشوف الرواتب والامتيازات الأخرى دون أن تكون لهم أي خدمة فعلية في صفوف القوات المسلّحة. بين الدولة واللاّدولة إنّ ما خلّفته سنوات حرب داعش في العراق يمكن وصفه بالوضع الشاذّ ليس فقط سياسيا ولكن أيضا، أمنيا وعسكريا حيث اختلطت سطوة الميليشيات بسلطة الدولة. وقد تكرّس هذا الوضع بقرار إدماج قوات الحشد الشعبي ضمن القوات النظامية، فكان أن أصبحت ميليشياته تنتمي للدولة وتحتمي بغطائها القانوني وتتمتّع بما توفّره من امتيازات مادية وغيرها دون أن تخضع بشكل فعلي لسلطتها ودون أن تقطع صلتها بقادتها الأصليين لتخضع لإمرة القائد العام للقوات المسلّحة الذي هو رئيس الوزراء. ويعبّر عن هذا الوضع غير السوي الخبير العراقي في شؤون الأمن والجماعات المسلحة هشام الهاشمي (اغتيل مؤخرا وتوجهت الشكوك في اغتياله نحو الميليشيات الشيعية التي عرف بنقده لها وتشريحه لوضعها في كثير من بحوثه ومقالاته)، إذ يصف الكيانات مزدوجة الهوية بـ”الفصائل الهجينة التي تعيش في منطقة رمادية بين الدولة واللادولة، وهي الأحزاب السياسية المختلطة التي تمتلك أذرعا داخل النظام السياسي التشريعي والتنفيذي، وأذرعا أخرى مسلحة عقائدية موازية للدولة”. ويضيف أن “قدرة الدولة على فرض سيادتها الداخلية ترتبط بصورة رئيسية بالحد التدريجي من تأثير الفصائل والأحزاب الهجينة، من دون الدخول بصدامات عنيفة ومعارك تكسير عظام لإنهاء وجودها”. ويحذّر الهاشمي في آخر بحث له عن الجماعات المسلّحة نشره قبل اغتياله بأيام تحت عنوان “المواجهة مع الفصائل المهجنة” من الاستعجال في مواجهة الميليشيات المشكّلة للحشد الشعبي واستهدافها بشكل مباشر قائلا إنّ “الخطير إذا ما رأت الفصائل أن هذا الاستهداف يشكل أزمة تهدد بقاءها، وهي تملك من القوة الاقتصادية والعسكرية والإعلامية والمجتمعية ما يجعلها قادرة على ردع كل من يحاول تهديد مصالحها، وأنها تستطيع قطعا الدخول في مواجهة الدولة”. لقد شهد العراق خلال الأشهر الأخيرة عددا من الأحداث التي أبرزت مجدّدا خطورة تسرّب الميليشيات إلى نسيج الدولة العراقية وممارستها تأثيرا مزدوجا، سياسيا وعسكريا على قراراتها. فعلى إثر إقدام القوات الأميركية مطلع العام الجاري على قتل قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبومهدي المهندس، سارع ممثلو الحشد في البرلمان العراقي إلى استخدام الكتلة التي ينتمون إليها “تحالف البناء” بكل ما يمتلكه هذا التحالف من وسائل ضغط سياسي ومادّي على النواب، في استصدار قانون ملزم للحكومة بإخراج القوات الأميركية من العراق. ورغم صعوبة تنفيذ القرار بسبب الارتباطات السياسية والاقتصادية والأمنية الواسعة لبغداد بواشنطن، فقد تحوّل إلى أداة ضغط ووسيلة ابتزاز للحكومة لمنعها من اتخاذ أي قرارات لا تناسب الميليشيات والأحزاب المرتبطة بها ومن انتهاج سياسات تتناقض مع مصالح إيران الحليف الإقليمي لتلك الأحزاب والميليشيات. أما أخطر حدث أبرز التناقض الحاد بين مصلحة الدولة العراقية والميليشيات المتغلغلة في ثناياها، فكان عندما أقدمت قوّة من جهاز مكافحة الإرهاب التابع لوزارة الدفاع العراقية في الرابع والعشرين من يونيو الماضي على اقتحام مقر تابع لكتائب حزب الله إحدى الميليشيات المشكّلة للحشد الشعبي في منطقة البوعيثة جنوبي العاصمة بغداد كانت الميليشيا تقيم فيه مخزنا لصواريخ الكاتيوشا وورشة لتصنيع منصات إطلاقها صوب المنطقة الخضراء حيث يوجد مقر السفارة الأميركية الهدف الرئيس للميليشيات العاملة لمصلحة إيران في العراق. وخلال الردّ على تلك العملية التي انطوت على قدر كبير من “الجسارة” من قبل حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي التي لا تزال في بداية عهدها، ظهر التكامل التام والتناغم الشامل بين القوّة السياسية والعسكرية، وأيضا الإعلامية للميليشيات الشيعية في العراق، حيث لجأت تلك الميليشيات إلى استعراض فوري للقوة في قلب العاصمة بغداد، وعلى مرأى من القوات النظامية سيّرت أرتالا من السيارات رباعية الدفع محمّلة بالمئات من المسلّحين المدجّجين بأنواع مختلفة من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة في عملية استعراض للقوّة في محيط المنطقة الخضراء حيث توجد غالبية المقارّ الحكومية والبعثات الدبلوماسية الأجنبية. وبالتوازي مع التهديد بالسلاح شنّ السياسيون المرتبطون بالميليشيات والنواب الممثّلون للحشد الشعبي تحت قبّة البرلمان حملة شعواء استهدفت بشكل مباشر رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي وانصبّت على التشكيك في شرعيته والتهديد بإسقاطه من منصبه، فيما راح إعلام الميليشيات وذبابها الإلكتروني يكيلان التهم للكاظمي بما في ذلك اتهامه بالتواطؤ مع الأميركيين في قتل سليماني والمهندس. وكانت المبالغة في إهانة رئيس الوزراء والحط من شأنه مقصودة لذاتها كتعبير عن تحدّي الدولة التي يمثّلها الرجل ويعمل على فرض سلطتها. وتجسّد ذلك في بث الفضائيات التابعة للميليشيات مشاهد لعناصر من حزب الله العراق وهم يدوسون صور الكاظمي. درس لا هزيمة انتهت “مغامرة” القبض على عناصر ميليشيا حزب الله بإطلاق سراحهم ما شكّل حسب البعض هزيمة للكاظمي في أول مواجهة جديّة له ضدّ الميليشيات، لكنّها مثّلت حسب وجهة نظر آخرين اختبارا ضروريا لردّة فعل الميليشيات والسياسيين المرتبطين بها تم الخروج منه بدرس مفيد يتلخّص في أن معركة الحسم ضدّ الأجسام المسقطة على الدولة العراقية لم تتهيّأ بعد، وأنّها قابلة للتأجيل لبعض الوقت لإفساح المجال أمام تقوية أجهزة الدولة ومؤسّساتها وعلى رأسها المؤسسة العسكرية والأمنية والتي يمتلك رئيس الوزراء رؤية معمّقة لأوضاعها ومواضع قوّتها ومواطن الخلل فيها وسبل معالجتها بحكم أنّه ابن المؤسسة الأمنية حيث سبق له أن تبوّأ منصبا حساسا فيها وهو رئاسة جهاز مكافحة الإرهاب. ويمكن اعتبار سلسلة التغييرات التي أجراها رئيس الوزراء على رأس عدد من الأجهزة الأمنية تجسيدا لتلك الخبرة، ودليلا أيضا على إمكانية فرض بعض الإصلاحات المهمّة ضدّ إرادة الميليشيات ومن يساندها من السياسيين الذين كانوا وراء إقالة ضباط مهنيين في إطار عملية إضعاف القوّات المسلّحة، لكنّ الكاظمي أعادهم إلى سالف مهامهم مثل الجنرال عبدالوهاب الساعدي الذي أعيد إلى رئاسة جهاز مكافحة الإرهاب بعد أن كان قد أحيل دون سبب واضح على وظيفة مكتبية في وزارة الدفاع من قبل رئيس الوزراء السابق عادل عبدالمهدي، والعميد يحيى رسول الذي أعيد إلى منصبه السابق متحدّثا باسم القائد العام للقوات المسلحة. ولا يمثّل المجال الأمني الميدان الوحيد الذي يمكن لرئيس الوزراء العراقي أن يمارس من خلاله الضغط التدريجي على الميليشيات، بل إنّ المجال الاقتصادي والمالي يبدو ساحة مهيأة لخوض المعركة ضدّ تلك الفصائل والأحزاب المرتبطة بها والانتصار فيها، فبقدر ما تشتدّ الرقابة على موارد الدولة ويُحدّ من هدرها، يضيق الخناق على الميليشيات المستفيدة من الفساد وتقلّ مصادر تمويلها، وتضعف بالتالي سطوتها وتغوّلها. ومن هذا المنظور اكتست الإجراءات الأخيرة التي اتّخذها مصطفى الكاظمي باتّجاه ضبط المنافذ الحدودية أهمية قصوى، وعدّت من قبل أغلب المتابعين للشأن العراقي أوضح خطوة في اتّجاه استعادة هيبة الدولة العراقية، ذلك أنّ تلك المنافذ ظلّت لسنوات طويلة رمزا لتراخي الأجهزة الرسمية العراقية وعجزها أمام سطوة الميليشيات التي كانت تدير العديد من البوابات الحدودية مع إيران بأريحية وتتحكّم في حركة البضائع والأفراد عبرها وتجني ما يتأتى منها من عوائد مالية وتحرم خزينة الدولة مما يقارب 13 مليار دولار سنويا. إنّ معركة تخليص الدولة العراقية من تغوّل الأجسام اللانظامية داخلها تظلّ معركة عسيرة ومعقّدة بفعل تركيبة نظام المحاصصة بقيادة الأحزاب الدينية والطائفية، لكنّ خوضها بأسلوب التدرّج والنفس الطويل يبقى ممكنا بسبب وجود متغيرات كثيرة داخل البلاد وخارجها يمكن اللعب عليها واستثمارها، وعلى رأسها نشوء مزاج شعبي عام مضاد لحكم تلك الأحزاب التي أفقرت الشعب، وناقم على الميليشيات التي استخدمت ضدّه عندما انتفض بشكل غير مسبوق في خريف العام الماضي. أما خارجيا فتعاني الميليشيات والشخصيات المرتبطة بها ضغطا مزدوجا من قبل الولايات المتّحدة التي بدت متحفّزة أكثر من أي وقت مضى لضربها عسكريا ومحاصرتها قانونيا بسلاح العقوبات والتصنيف على لوائح الإرهاب. أما المصدر الآخر للضغط فهو الأزمة الخانقة التي تشهدها إيران والتي تحدّ من قدرتها على مواصلة الدعم الذي كانت تقدّمه لوكلائها في العراق، وكان من العوامل المباشرة في التمكين لهم هناك.
مشاركة :