«الأرض اليباب» لإليوت.. أمطار ربيعية في جذور خامدة

  • 7/19/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

الشارقة: أوميد عبدالكريم إبراهيم كانت العِبارات المكتوبة على شواهد قبور ضحايا الحرب العالمية الأولى بمثابة «شرارة الإلهام» للشاعر البريطاني الكبير «ت.س. إليوت» لكتابة أروع أعماله الشعرية على الإطلاق، وتأليف القصيدة التي منحته شهرة عالمية بحسب النقّاد، وهي قصيدة «الأرض اليباب» التي أبصرت النور في عام 1922، وفيها يقدم إليوت صورة مظلمة للعالم المعاصر، ويعكس فيها خيبات الأمل والانكسارات التي خيَّمت على العالم الذي أصبح غارقاً في الخوف والذعر، والمشاعر المتوحشة عقب انتهاء الحرب التي طحنت البشر والحجر. وُصفت القصيدة بدايةً بأنها «معقدة وغامضة»، ودار جدل طويل حولها؛ إلا أنها أصبحت لاحقاً واحدةً من أبرز أعمال الأدب المعاصر، وإحدى الكتابات التي وصفت قتامة الواقع الأوروبي، والفراغ الروحي الذي خيَّم على العالم عقب الحرب، ومن العوامل الأخرى التي ساهمت في اكتمال القصيدة الانهيارُ الذي أحدثه وفاة والد إليوت في نفسه عام 1919، وقد عَمدَ الشاعر البريطاني فيها إلى تغيير السرد بشكل مفاجئ، واقتبس إشارات من بعض الثقافات والمعتقدات والأساطير. قسوة إبريل قصيدة «الأرض اليباب» تتألف من 434 بيتاً موزعة على 5 أقسام، هي على التوالي: «دفن الموتى»، ويتناول عدة مواضيع يُخيم عليها اليأس وخيبة الأمل، يليه «لعبة الشطرنج»، والذي يُسلط الضوء على بعض الشخصيات بأسلوب تجريبي، ثم «قَسَمُ النار»، وفيه يرسم الشاعر تأملاً فلسفياً لبعض المعتقدات والأساطير، ليأتي بعده «الموت بالماء»، وأخيراً «ما قالته العاصفة». ويقول إليوت في مطلع قصيدته: إبريل أشد شهور العام قسوة يخرج زهور الليلك من بطن الأرض الميتة يمزج الذكرى بالرغبة الحية يسري بأمطار الربيع في الجذور الخامدة فتنبض أحاطنا الشتاء بمعطف الدفء وافترش الأرض بجليد النسيان لعبة الشطرنج الأسلوب الذي كُتبت به «الأرض اليباب» فيه الكثير من الاقتباسات والتلميحات الموزَّعة على أنحاء القصيدة؛ فضلاً عن بعض المراجع والاقتباسات الأخرى لعدد من كبار الشعراء أمثال «شكسبير» و«أوفيد» و«بودلير»، ولكن الشاعر البريطاني أزال شطراً من القسم الثاني للقصيدة نزولاً عند رغبة زوجته فيفيان هايغ وود، ولكن الشطر أُعيد إلى مكانه في النسخة التي طُبعت عام 1960، ويقول إليوت في قسم «لعبة الشطرنج»: الضياء على المنضدة في حين هرع وميض جواهرها للقائه متدفقاً من علب الحرير الأطلسي في ثراء باذخ ومن قوارير العاج والزجاج الملون وقد فتحت أفواهها.. وتَضَوَّعَ أريج عطورها الغريبة مرهميةً.. مسحوقةً أو سائلة.. مشوشة حائرة فأغرقت الحواس في عبقها المضطرب بين طيات الهواء ضفة النهر يرجّح النقاد أن يكون إليوت قد أمضى عدة سنوات في العمل على «الأرض اليباب» التي تكشف مسوداتها عن احتوائها على ضعفي حجم القصيدة التي ظهرت بشكلها النهائي عام 1922، ويُرجعون السبب إلى أن الناقد الأدبي الكبير عزرا باوند الذي حرَّر القصيدة هو من اقترح حذف أجزاء كبيرة منها، وكان إليوت قد بعثَ رسالةً إلى المحامي والسياسي الأمريكي جون كوين منتصف العام 1921، أي قبل حوالي عام من ميلاد القصيدة، وكتب فيها أن «لديه قصيدة طويلة في الذهن، وأن جزءاً منها أصبح على الورق وأتمنى إنهاءه»، ويقول الشاعر البريطاني في جزء آخر من هذه القصيدة: انهارت الخيمة على ضفة النهر والتصقت آخر أصابع ورقة الشجر بالضفة المبتلة ثم غاصت فيها والريح تعبر الأرض القاتمة في سكون مطبق يا نهر «التايمز» العذب تمهَّل فأنا لا أرفع عقيرتي ولا أطيل لكن خلف ظهري مع لفحة هواء بارد تصطك أذناي بخشخشة العظام وضحكة مكتومة تتردد من أذن لأذن خيالات مشوشة لم يمنع «الاضطراب العصبي» الذي أصيب به إليوت من إكمال «الأرض اليباب»، فبعد أن أوصاه الأطباء بالخلود للراحة سافر مع زوجته فيفيان إلى أحد المنتجعات الساحلية البريطانية، وهناك عمل على إكمال القصيدة نهاية العام 1921، ومن المفارقات الطريفة والغريبة أن إليوت كتب في طلب الإجازة الذي قدَّمه لإدارة البنك الذي كان يعمل فيه أنه يعاني من «انهيار عقلي»، ويحتاج لبعض الراحة، ويتوقع النقَّاد أن يكون الشاعر البريطاني قد عرض نسخة أوليِّة من القصيدة على عزرا باوند قبل أن يتوجه إلى باريس ومنها إلى سويسرا لتلقي العلاج، وفيما يلي مقتطف آخر من القصيدة: ما الجذور التي تتشابك، وأيةُ أغصان تنمو من هذه القمامة المتحجرة يا أيها الإنسان؟ أيها العاجز عن الكلام أو التخمين أنت لا تعرف سوى كومة من الخيالات المشوشة حيث ترسل الشمس ضرباتها والشجرة الميتة لا تفيء ظلاً وصرصر الليل يبدد الارتياح رغم الشهرة الواسعة التي نالها إليوت الحاصل على جائزة نوبل في الأدب عام 1948، فإن إنتاجه الشعري لم يكن وفيراً، وكان الشاعر نفسه يعي ذلك تماماً؛ لذلك كتب رسالةً إلى جيه. إتش. وودز، وهو أحد أساتذته السابقين؛ قال فيها: «سمعتي في لندن مبنية على قليلٍ من الأبيات، وتصونها طباعة قصيدتين أو ثلاث في السنة. الشيء الوحيد المهم أن هذه القصائد ينبغي أن تكون كاملة وفريدة من نوعها؛ بحيث تصبح كُل واحدةٍ منها حدثاً بحد ذاتها».

مشاركة :