الشعر جسر من الأحاسيس تولد من الماضي، وتتشكل في الحاضر، وتسافر إلى المستقبل استقراء ونبوءة. كثيرة هي القصائد التي تنبأت بالمستقبل في مختلف زاوياه وكأن الشاعر عائد من مستقبل ما ليخبرنا بما شاهده وما سيحدث. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الشاعر المصري محمد الكفراوي الذي يحاول أن يقدم لقرائه صورا من زمن قادم. يمكنه قراءة القادم، وتصوير الآتي، واستنطاق الغد. يغلي الشاعر بمواجع البشر حوله، ويتفاعل معهم، ويسابقهم وعيا وشعورا، ويرسم ما يراه خطرا قادما فيحذر وينذر، ويلفت وينبه، ويمد يدا سامقة نحو السماء ممسكا بلحظات لم تأت بعد، كأنه جرس إنذار لأوجاع قادمة لبني البشر. هذا ما يحاول أن يؤكده الديوان الأحدث للشاعر محمد الكفراوي والذي يحمل عنوان “مكان مشبوه”، إذ يقول في إحدى قصائده التي كتبت قبل ظهور وباء كوفيد – 19 ببضعة شهور “سبقَ أنْ قُلتُ لكُمْ/ إنَّ الأرضَ مكانٌ مشبوهٌ/ وغَيرُ آمنٍ بِالمرّةِ/ فهي في أحسنِ حَالاتِها/ مليئةٌ بالأوحَالِ والأوبِئَةِ”. كأن الشاعر كان يرى ويتخيل أن ظهور الأوبئة الفتاكة نتيجة طبيعية ومتوقعة لما عليه العالم من ترد وانحطاط ومادية طاغية، مؤكدا في حواره مع “العرب”، أن إحدى وظائف الشعر التنبؤ بالغد أو استشراف المستقبل. تطور بلا نهايات يقول الكفراوي بأن الشاعر لديه حساسية مفرطة تجاه كل ما يحدث حوله في العالم، تمنحه القدرة على التنبؤ بالقادم والتحذير منه، فالشعر سلاح من الخيال الذي يجعلنا نعيد النظر في ترتيب مفردات العالم بما يتناسب ويتناغم مع جوهرنا، هو سلاح قادر على نحت الجمال ومقاومة القبح وتغذية الروح بكل ما تحتاجه من رؤى ومشاعر خلّاقة. محمد الكفراوي شاعر مصري من جيل الوسط، استطاع أن يقدم لغة خاصة ومميزة من خلال دواوينه الشعرية، ويحاول استعادة وظيفة الشعر باعتباره طاقة روحية تسعى لتغيير العالم، ونشر ثلاثة دواوين هي: “حلم وردي يرفع الرأس”، و”بعد الموتى بقليل”، والديوان الأخير “مكان مشبوه” والذي صدر قبل أيام. كما صدر له كتاب قصصي للأطفال بعنوان “سأكون أختها”، وشارك الشاعر في مهرجانات عديدة للشعر، وعمل في مجال الإعلام على مدى أكثر من عشرين عاما، غير أنه قرر مؤخرا التفرغ للإبداع لتصوره أن الكتابة الصحافية تؤثر على الإبداع. إذا كان البعض يرى أن الشعر وصل في قصيدة النثر إلى أقصى درجات التطور الممكنة والمقبولة، فإن الشاعر محمد الكفراوي يؤكد لـ”العرب” أن التطور عملية دائمة ليس لها نهايات، وإمكانيات التطوير في قصيدة النثر بلا حدود، ومفتوحة على اتساعها، فكما تمرّد كتاب هذه القصيدة على الأنماط القديمة فإنه بإمكانهم أن يتمردوا على أنفسهم والأنماط والقوالب الجاهزة التي يحاول البعض ترسيخها كنموذج مثالي لقصيدة النثر، في حين أن ميزة هذه القصيدة أنها تمثل أفقا لامتناهي الجماليات. رغم الآثار النفسية السيئة التي تركتها جائحة كورونا، إلا أنها ساعدته على القراءة والإبداع، حيث قام بكتابة مجموعة قصائد جديدة تشكل عماد ديوانه الرابع الذي اختار له عنوان "يكشط العدم بأظافره ويقهقه" ويضيف قائلا “الجميل في هذه القصيدة أو النوع الشعري الجديد أن جيل الرواد يدرك تماما ماهية وصيرورة التطور المستمر لتلك القصيدة، بل ويحذر من النمطية والقولبة، في حين أن الرواد في أنواع شعرية أخرى أصيبوا بالتكلس ورفضوا تطوير النمط الذي يكتبونه، ويعتبرون المساس به يشبه المساس بالمقدسات”. مر الشعر العربي بثلاثة تحولات كبرى من القصيدة العمودية الكلاسيكية إلى الشعر الحرـ التفعيلة، إلى قصيدة النثر، لكن ذلك لا يعني انتهاء عملية التطوير، فهي سمة دائمة للقصيدة الحديثة. في رأي الكفراوي، فإن الشعر مفتوح على كل الاحتمالات وكل مساحات التجريب بما فيها استخدام المصطلحات الأجنبية أو حتى نحت مصطلحات عربية من تراكيب وكلمات قديمة وعادية، وهو الرهان اللغوي الذي يعتمد عليه الكثير من المبدعين. كانت السياسة مثلا إحدى القضايا الكبرى التي تجاهلها الشعر الجديد أو قصيدة النثر كنوع من التمرد والرفض للأوضاع القائمة، وإن حضرت لدى بعض الشعراء، فيكون ذلك كفكرة فلسفية أو انخراط من الشاعر في قضايا المجتمع، لكن عادة ما تحمل تلك القضايا صفة المباشرة التي تخلو من روح الفن أو التخييل، وتبقى السياسة دائما في خلفية المشهد من المؤثرات المسكوت عنها في خبرات الشاعر. يوضح الكفراوي أن جُلّ ما يحلم به أي شاعر هو أن يمتلك صوتا مميزا يخصه، ويحمل بصمته التي لا يمكن أن تتكرر أبدا، والتميز والتفرد واللغة خاصيات تجعل للشعر معنى ومصداقية وربما يمس أكبر عدد ممكن من البشر، كلما شفّت روح الشاعر وارتقى وعيه تمكن من إيجاد لغته الخاصة وبصمته المميزة التي يتركها كبوصلة تطوير في السياق الشعري لعصره. ويلفت إلى أن اللغة تتشكل لدى كل شاعر بطريقة تلقائية، فالشاعر يكتسب على مدى مشواره مفردات وصورا يثريها الخيال ويدعمها ويفرض سلطته أحيانا على اللغة، فيكون للخيال دور البطولة واللغة الوسيط التابع المطيع. ويشير إلى أن أجمل الشعر وأعذبه هو أصدقه وأكثره حساسية، فكلما حمل معاني وصورا وأفكارا مشتركة بين جميع البشر كان أجمل في الحزن أو البهجة. ويلفت إلى عدم وجود صراع حقيقي بين الشعر والرواية كما يتوهم البعض، فمنذ نشر الناقد المصري جابر عصفور، كتابه المهم “زمن الرواية” وأطلق هذا المصطلح في تسعينات القرن الماضي، وهناك اعتقاد خاطئ مفاده أن هناك صراعا أو سباقا محموما بينهما للفوز بعقل وقلب واهتمام المتلقي والانفراد بالساحة الأدبية، في حين أنني أرى “الشعر والرواية والقصة والمسرح وحتى النقد جميعها أجناس أدبية تسير في مسارات متوازية وربما متداخلة”. ويدلل على ذلك بأن هناك أكثر من شاعر اتجه لكتابة الرواية، وهذا ليس دليلا على تفوق الرواية، بقدر ما هو غواية النوع الأدبي بقماشته الفضفاضة، قائلا “لا شك أن الرواية تحظى باهتمام كبير على مستوى النشر والجوائز والمتابعات النقدية أكثر من الشعر، وفي صدارة المشهد، وربما أدت صعوبة اللغة أو غرابة التراكيب أو التجريب إلى نوع من الخصومة بين الناس والشعر، لكن الخصومة بدأت تنزوي مع اهتمام أصوات شعرية كثيرة بالقضايا الكبرى أو حتى قضايا الشارع”. وقال “إنني شخصيا أسعى جاهدا أن أكتب قصيدة من لحم ودم الشارع”. في رأي الكفراوي، فإن مشاركة الشاعر في منتديات ومهرجانات متنوعة على المستويين ضرورة لازمة رغم تطور وسائل التكنولوجيا والاتصالات لأنها تصنع الاحتكاك المباشر بالمبدعين وأصحاب رؤى التطوير، وتلك المنتديات تطرح الشعر بكل أنواعه واتجاهاته، فلا تتوقف عند القصيدة العمودية أو الشعر الحر أو قصيدة النثر، والسمات المشتركة تظهر بين شعراء النوع الواحد. يقول الكفراوي بأن الشاعر لديه حساسية مفرطة تجاه كل ما يحدث حوله في العالم، تمنحه القدرة على التنبؤ بالقادم والتحذير منه، فالشعر سلاح من الخيال الذي يجعلنا نعيد النظر في ترتيب مفردات العالم ومن الممكن أن تجد الحس الخطابي والبياني لدى شعراء القصيدة العمودية، في حين تجد نمطا من الاحتفاء بالموسيقى على حساب التخييل لدى شعراء التفعيلة، والتفاصيل الذاتية واليومية والهامشية والمفارقة الغالبة على شعراء قصيدة النثر. ورغم الآثار النفسية السيئة التي تركتها جائحة كورونا، إلا أنها ساعدته على القراءة والإبداع، حيث قام بكتابة مجموعة قصائد جديدة تشكل عماد ديوانه الرابع الذي اختار له عنوان “يكشط العدم بأظافره ويقهقه”، ومعظم نصوصه كتبت في فترة العزلة، وإن كانت لا تتناول وباء كورونا بشكل مباشر. وحول أهم الشعراء الذين تأثر بهم الكفراوي، يقول لـ”العرب” “إذا استثنينا الأثر الذي تركه في أبناء جيلي من شعراء كبار ومؤسسين في شعر التفعيلة مثل صلاح عبدالصبور وأمل دنقل وأحمد عبدالمعطي حجازي، فإنني تأثرت كثيرا بجيل الرواد في قصيدة النثر من السبعينات، وأعتقد أن الكثير من أبناء جيلي تأثروا بهم، ومنهم حلمي سالم وفريد أبوسعدة ورفعت سلام وأنسي الحاج ووديع سعادة وسليم بركات وأدونيس، وهناك جيل آخر تال في قصيدة النثر في الثمانينات والتسعينات من مصر والدول العربية من الأصوات المتميزة والمتفردة”. ويكشف الكفراوي، أن مشروعه الإبداعي بدأ مبكرا عندما كان يدرس في كلية دار العلوم بالقاهرة في نهاية التسعينات، حيث بدأ رحلة الولع بقصيدة النثر وكان يكتب قصيدة التفعيلة، ووقتها وجد في الشعر الصافي البعيد عن الوزن والقافية آفاقا للتجريب والانطلاق بحرية ومس المشاعر والأفكار المختلفة للإنسان لينشر قصائد تثير انتباه واهتمام النقاد وجمهور الشعر.
مشاركة :