الإحساس بالوحدة والعزلة يدفع المرء أحيانا إلى البحث عن بديل ما يخرجه ممّا هو فيه، إحساس قد يتفاقم ويتحوّل إلى هواجس وحتى مشكلات نفسية تنغّص على البشر حياتهم، فيجتهدون قدر المستطاع لأجل اجتذاب مواقف تجعل واقعهم أكثر سعادة، ضمن هذه الثيمة تدور أحداث فيلم “الناقل” للمخرج جاكوب بيرنز. تحاول تيريزا إعادة ترتيب أحداثها ويومياتها، من خلال رغبتها في العودة بالزمن إلى الوراء، في إطار التمني بالطبع، لغرض تفادي الأخطاء التي سبق لها الوقوع فيها. هذا المدخل يقرّبنا من فيلم “الناقل” للمخرج جاكوب بيرنز، حيث أننا سوف نعيش في الغالب مع أحوال وتقلّبات وهواجس ومشكلات الشخصية الواحدة، وهي تيريزا (الممثلة نيكول فرانتشر). وتلك الأحوال والتقلّبات هي التي سوف تدفعها باتجاه البحث في إشكالية السفر عبر الزمن، وصولا إلى ماكنة السفر عبر الزمن التي سبق وتعرّفنا على مثيلات لها في العديد من أفلام الخيال العلمي، ابتداءً من الفيلم المؤسّس لهذا النوع، وهو فيلم “رحلة إلى القمر” (إنتاج 1902) لتليه سلسلة من الأفلام التي عالجت الإشكالية نفسها، كفيلم “الدكتور سترينج” و”النجمي” و”ستارتيك” و”الزوجة عابرة الزمن” و”حافة الغد” وغيرها. وفي فيلم “الناقل” تفتح تيريزا عينيها لتصاب بتلك البقعة السوداء التي ستنتشر في أماكن مختلفة من جسدها كلما حاولت السفر عبر الزمن. التفاصيل التي ترتبط بتلك الرحلة لا تتّضح بسبب البيئة المحافظة وحالة الانطواء على النفس التي تعيشها تيريزا، فهي ما تزال تعيش أجواء فقدان الأب وهو الإنسان الوحيد الذي يربطها بهذا العالم، وقد سعت كثيرا من أجل رعايته، لكن يبدو أن رحيله كان عاملا إضافيا لنزعة تيريزا في الخلاص من الواقع. هذه القصة الدرامية المبنية على أساس الشخصية الواحدة هي بمثابة تحد بالنسبة للمخرج وهو نفسه كاتب السيناريو، إذ أن أمام الشخصية الكثير لكي تجتذب الجمهور وتقنعنا بتلك القصة السينمائية. رحلة عبر الزمن مصحوبة باكتشافات بسيطة وأكثر واقعية رحلة عبر الزمن مصحوبة باكتشافات بسيطة وأكثر واقعية يحرص المخرج وهو المتمرّس في العديد من التخصّصات في المجال السينمائي، التصوير والمونتاج والمؤثرات وغيرها، على قيادة الشخصية باتجاه تكريس العزلة مستخدما في ذلك عناصر المكان بشكل متنوّع من خلال القطع المستمر على مفردات مكانية متنوعة واعتماد اللقطات الثابتة لتصوير عناصر مكانية محدّدة. وخلال ذلك سوف تكون عملية الإنتقال بالزمن في هذا الفيلم أقرب إلى المفردة المنسجمة مع يوميات الشخصية، إذ لا يتم تكريس عملية الانتقال بالشكل المعتاد بتشغيل ماكنة عبور الزمن وبرمجتها وما إلى ذلك، هنا سوف تكتفي تيريزا بتدوين كم من الزمن استغرقت رحلتها، ولسوف يظهر ذلك من خلال اللوم الذي تتلقاه من مديرتها في العمل عن سبب تغيّبها المفاجئ. وفي موازاة ذلك هناك خط سردي آخر مرتبط بحياة تيريزا الشخصية وكونها فتاة منعزلة تعجز عن مواعدة أي أحد، لكنها ساعة تواعد شخصا مرموقا عرفته خلال رحلة عبر الزمن، أي في الماضي، تكتشف أنه يخون زوجته فتنصرف عنه. واقعيا، تبدو الرحلة عبر الزمن هنا مصحوبة باكتشافات بسيطة وأكثر واقعية دون الكثير من الإسراف والمبالغة في اجتياز الآفاق. لكن ما يؤخذ على تلك المشاهد هو تكرار إصابة تيريزا بالإعياء في العديد من المشاهد حتى تخرج ما في معدتها، وذلك تكرار لم يكن ذا جدوى في المشاهد الفيلمية. وأما إذا انتقلنا إلى ماكنة الزمن نفسها، فإننا هنا لن نجد شيئا من تلك التكنولوجيا المتطوّرة للانتقال بالزمن، فقد عمد المخرج إلى ما هو أبسط بكثير، لنستنتج، ربما، أن تيريزا تنتقل نفسيا إلى زمن آخر وليس واقعيا. لكن تلك الفرضية سرعان ما سوف تختفي بمجرد اختفاء القطة أو اختفاء الصديقة أو حتى تشكّل تيريزا بعد عودتها من زمن آخر. أما لجهة علاقة تيريزا مع بليك (الممثلة آسلي مانداناس) فإنها سوف تضاف إلى الرحلة عبر الزمن، فمن جهة تتواجد تيريزا في المكتبة لأخذ مصادر في هذا الموضوع ومن جهة أخرى تجد في بليك صديقة حميمة تفضي لها بأسرارها، وفي مقدّمتها ما تعيشه من متاعب بعد موت والدها وكذلك رحلتها عبر الزمن. الرحلة عبر الزمن في الفيلم تبدو مصحوبة باكتشافات بسيطة وواقعية دون الكثير من الإسراف والمبالغة في اجتياز الآفاق في المقابل، لا بد لعبور الزمن من تأثيرات حتى على ملامح الشخصية، وكان بالإمكان مثلا أن تنتقل الشخصية إلى الشيخوخة. لكن المخرج اختار بعض التشوّهات التي تظهر على وجه تيريزا بسبب انتقالها عبر الزمن. والملاحظ هنا أن تيريزا تعجز عن التعبير عن نفسها في أغلب المشاهد، ولهذا فإن أغلب المشاهد الحوارية تقطع فيها تيريزا ما تريد قوله وتتلعثم في إبداء وجهة نظرها، لربما كان ذلك بسبب وضعها النفسي وهو ما يجد لدى المخرج تسويغا. لكن ذلك ليس كافيا لغرض الإفصاح عن أفكار الشخصية وهواجسها. يمكن تصنيف الفيلم على أنه من الأفلام قليلة التكلفة. لكن ما سدّ الكثير من الثغرات من الناحية الإنتاجية، هو تكريس شكل فني متوازن اعتمد على المونتاج واللقطات الساكنة ومحدودية الحركة لينسجم كل ذلك مع الوضع النفسي الذي تعيشه البطلة.
مشاركة :