مدن الحرير ودروبه: «باميان» مدينة وعرة على طريق الحرير.. تقاوم النكبات إلى اليوم

  • 9/16/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

في صباح يوم السادس عشر من سبتمبر عام 2016 كانت بداية علاقتي بمدينة «باميان»؛ واحدة من المدن المسجلة في قائمة التراث العالمي؛ وإحدى مدن طريق الحرير البري في وسط آسيا، و«باميان» تتبع حاليًّا دولة أفغانستان. في صباح ذلك اليوم وفي إحدى قاعات الدرس بجامعة هايدلبرج الألمانية العريقة؛ كان محور النقاش حول آليات ومعايير استخدام التكنولوجيا الرقمية الحديثة في إعادة إعمار المدن المتضررة جراء الصراعات المسلحة أو الكوارث الطبيعة وغيرها من الأمور الطارئة التي ينتج عنها تغيير مفاجئ في شكل وهوية وبنية المدن وتراثها المعماري ومورثها المحلي. وكانت مدينة «باميان» واحدة من المدن التي لها تجربة ناجحة معاصرة آنذاك؛ باستخدام تقنية الهولوجرام في إعادة تكوين أحد أشهر معالمها البارزة؛ وهي تمثال بوذا القابع في تجويف الجبال الشاهقة.. وكانت جدلية النقاش ومساره حول معايير وأخلاقيات التدخل الرقمي في حفظ التراث واستعادة المفقود منه. ومن مدينة «هايدلبرج» إلى «باميان» مرة أخرى؛ والتي – وبكل أسفٌ – كان انطباعي الذهني عنها فور سماع اسمها؛ أنها معقل للتطرف والإرهاب المرتبط باسم جماعة طالبان المتمركزة في مدن وأنحاء شاسعة من أفغانستان؛ تلك الدولة التي ظلمتها الجغرافية الطبيعة والسياسية أيضًا؛ لتصنع حاجز معرفي ونفسي يفصلنا عن إرثها المعماري والفني وموروثها الثقافي والتاريخي. إلا أن تلك التجربةالحديثة التي خاضتها المدينة؛ عززت لدي حب المعرفة والاستكشاف والتعمق في تاريخها. من هنا كانت الصلة التي ربطتني معرفيًا بتلك المدينة التي لها باع طويل على طريق الحرير بصفتها حلقة وصل تربط بين الصين ووسط الهند ووسط إيران مرورًا بأفغانستان. وتعجبت كثيرًا من كون مدينة «باميان» رغم صعوبة جغرافيتها الطبيعية ووعورة الطرق المؤدية إليها إلا أنها كانت محطة تجارية مهمة وعلامة بارزة على طريق الحرير البري. أحداث عديدة ارتبطت بمدينة «باميان» لتؤكد على أن قراءاة التاريخ والتعمق في تفاصيله؛ تُزيد من قدرة القارئ على فهم تغيرات الحياة وتقبلها وكيفية التعايش معها. وكذلك قراءة تاريخ المدن والتوغل في دروبها؛ يعكس مراحل ميلادها ونموها وتطورها في بعض الأحيان أو أفولها واندثارها في أحيان أخرى. إلا أن مدينة اليوم على طريق الحرير مدينة وعرة جغرافيًا وتاريخيًا.. مدينة لها ماض مُشرف في المقاومة والثبات أمام المحن المختلفة التي عاثت فسادًا وتخريبًا فوق أرضها. لتصبح «باميان»؛ مسرحًا لأحداث تاريخية مختلفة؛ لتكون تلك البقعة من الأرض بمثابة القاسم المشترك بين ما كان بالأمس وما يحدث اليوم. فمنذ زمن بعيد، يعود إلى القرون الميلادية الأولى.. كان اسم «باميان» ذائعًا ومنتشرًا بانتشار البوذية وأتباعها؛ وكانت تماثيل بوذا وتعالميه علامة من علامات الطريق التي تجذب كل المهتمين بالبوذية وتعالميها للوصول إلى المدينة، لتكون التجارة والمعتقد الديني؛ ركيزتان من أهم عوامل الجذب التي ذاع بها صيت «باميان» وارتفع شأنها.. وبمرو الوقت عرفت «باميان» الإسلام وتعاليم نبيه الكريم، ومن ثم انضمت سياسيًا وإداريًا لدول كثيرة يُدين حكامها بالدين الإسلامي، ويتخذونه دينًا رسميًا للدولة، ومنها على سبيل المثال دولة الغوريين. ففي «باميان» في القرن الثاني عشر ومطلع القرن الثالث عشر الميلاديين، زادت تحصينات المدينة واختلفت بنيتها الاجتماعية والدينية بين معتنقي الدين الإسلامي (الوافد الجديد نسبيًّا) وسكان ما زالوا يعتنقون البوذية ويعيشون معًا جنبًا إلى جنب. يجمعهم معًا هيكل إداري وتنظيمي واحد، وصعوبات وويلات مشتركة وخطر قادم من الشرق.. فقد عانت «باميان» من ويلات الزحف المغولي في مرحلته الأولى – الأكثر شراسة وتدميرًا – على يد جنكيز خان؛ وطالها التدمير والتنكيل بأهلها، ونشبت الحرائق في قراها. فتحولت المدينة في عام 1221م إلى مدينة مختلفة؛ فقدت جزء كبير من أهميتها التجارية بتوقف حركة التبادل الدولي إثر المخاطر التي تعرض لها التجار من نهب وسرقة وقتل وإنفلات للأمن الذي واكب هجمات جنكيز خان وقادته على أغلب مدن آسيا.. ولكن لم تُهزم «باميان» فاستعادت حيويتها مرة أخرى واستكملت دورها على طريق التجارة الدولي وازدهرت مجددًا كمحطة مهمة من محطات القوافل المارة في عمق آسيا من الصين والهند إلى بلاد فارسوالعراق.. ودام الحال هكذا فترة ليست بقصيرة. عاد اسم «باميان» يتردد مرة أخرى على الساحة الدولية؛ في العام الأول من القرن الواحد والعشرون؛ وتحديدًا في مارس عام 2001م عندما أعلن المُلا عمر عن تدمير تمثال بوذا العملاق وتفجيره وسط ذهول واستنكار من المجتمع الدولي من المهتمين بالتراث الثقافي والموروث المحلي للمدن ومؤسساته المختلفة. تلك الموروثات المتنوعة التي تُكسب المدن هويتها وشخصيتها المتفردة. وبالفعل تم تدمير تمثال بوذا العملاق، وأصبح اسم المدينة مرتبط ارتباط وثيق بقوات طالبان وتطرفهم وتدميرهم للإرث المعماري والفني للمدن التي تقع تحت طائلتهم. عقب التدمير المخزي.. بدأت الدراسات الجادة في قاعات الجامعات العلمية المرموقة دوليًّا؛ تناقش كيفية استعادة هذا الإرث الإنساني والحفاظ على ما هو موجود سواء في أفغانستان أو غيرها من البلاد التي تعاني ويلات الصراع المسلح الأهلي والدولي، خاصة مع تزايد مخاطر حركة داعش في دولة العراق تحديدًا وتدميرها لكثير من الإرث المادي الذي تركه لنا الأجداد، في محاولة جادة لمنع طمس هويات المدن وثقافتها وموروثاتها القيمة. وفي «باميان» .. نجد أنفسنا أمام مدينة عريقة تقاوم بشدة كل ما مر ويمر بها من نكبات على مدار تاريخها، وسرعان ما استعادت قوتها ووقفت شامخة من جديد، شاهقة كجبالها؛ على ممرات التجارة الدولية البرية. وإن كانت جغرافيا التجارة والنقل البري اليوم قد اختلفت كثيرًا عما كانت عليه في القرون الماضية، إلا أن «باميان» تسعى مؤخرًا جاهدة لاجتذاب قوافل السياحة إليها؛ رغم صعوبة الفكرة ومخاطرها؛ إلا أنها تعمل جاهدة لتكون نقطة التقاء وتعايش مرة أخرى، بتحويل بحيراتها إلى محميات طبيعية، ونجحت هيئاتها المحلية في وضع المدينة على قوائم التراث العالمي التي يجب حمايتها وصونها دوليًّا وليس فقط على النطاق المحلي والإقليمي. فإذا بـ «باميان» تفتح أبوابها الآن أمام البعثات العلمية الدولية لتنفض الغبار عن تاريخها بجوانبه المختلفة والمتنوعة. ففي الوقت الذي دمرت فيه قوات طالبان تمثال بوذا العملاق ذلك التمثال الشهير الذي استطاع أن ينجو بأعجوبة في القرن السابع عشر الميلادي من محاولة تدمير مماثلة على يد الإمبراطور أورنجزيب، ألحقت به بعض التشويه وتخريب بسيط. إلا أنه لم يصمدطويلاً أمام المواد المتفجرة التي كُبل وقُيد بها والتي حولته في دقائق معدودة إلى كومة التراب وبقايا أحجار منثورة تطوي معها سيرة شاهد عيان؛ عاصر صفحة مهمة من صفحات تاريخ المدينة. ولكن.. سرعان ما مهدت «باميان» الطريق للبعثات العلمية والمرممين والآثاريين، وأتاحت الفرصة أمام التقنيات الرقمية الحديثة لاستعادة بوذا العملاق حتى ولو بشكل مغاير لما كان عليه؛ مؤكدة على مقاومتها المستمرة ومحاولات الدائمة للنهوض من جديد.

مشاركة :