مدن الحرير ودروبه: مِرْو … من «أرض شروق الشمس».. الصامدة على طريق الحرير

  • 10/1/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

من هذه الأرض؛ تشرق الشمس.. من هنا تشرق الحضارة؛ فكانت«خُراسان»؛ أرض شروق الشمس.. ففي زمان لم تكن فيه الحدود السياسية واضحة وحادة كاليوم؛ كان هناك إقليم يتلألأ في آسيا الوسطى يُعرف باسم إقليم «خُراسان» أي أرض شروق الشمس؛ هذا الإقليم مٌقسمة مدنه وقراه اليوم بين أكثر من دولة (تركمانستان وأفغانستان وإيران).. ومدينة «مرو» وتنطق «ميرف» Merv؛ واحدة من أهم مدن هذا الإقليم. مدينة لها صيت ذائع وتاريخ عريق تمتد جذوره إلى ما قبل الميلاد.. وتُعرف «مرو» باسم «مرو الشاهجان»؛ و«الشاهجان» نوع من أنواع المنسوجات الفاخرة التي اشتهرت بها هذه المدينة،وبرع فيها أهلهاوتقع «مرو» في دولة تركمانستان حاليًّا، والمدينة مسجلة ضمن قائمة التراث العالمي كواحدة من المدن التراثية الواجب حفظها للإنسانية، لما لها من خصوصية وشخصية فنية ومعمارية على مدار حقب زمنية مختلفة تمتد لعهد الساسانيين وتستمر إلى اليوم. وقد تجاورت مدينة «مرو» مع جارتها في هذا الإقليم ومنهم «سرخس» و«هرات» و«بلخ» و«نيشابور» و«مشهد»…. وغيرها من المدن والقرى التي كان لكل منهم شخصية متفردة وموروث مختلف جعل المنافسة بين مدن الإقليم الواحد في أوجها. وتتميز «مرو» بكونها محطة مهمة على طريق الحرير؛ قِبلةً ومزار للتجار والرحالة، في الطريق الواصل بين مدن فارس وأفغانستان وبين بلاد ما وراء النهر. فتحولت «مرو» إلى حلقة مفصلية ونقطة تقاطع والتقاء؛ تصل التجار والمسافرين المنتقلين بين مدن «بخارى» و«سمرقند»في الشمال و«هرات» وجنوب أفغانستان من ناحية، وكذلك مدينة «مشهد»و«نيشابور» وشرق فارس في الجنوب من ناحية أخرى، وأيضًا تصل بين «ترمذ» في الشرق والطريق المؤدي لبحر قزوين في الغرب. ومن هنا كان تفردها عن مدن الإقليم؛ لموقعها الذي ساهم في كونها ملتقى الخطوط التجارية في آسيا، ووقعها بالقرب من نهر مورجاب جعل أرضها سهلية خصبة؛ فأثمرت بساتين وحدائق أكسبتها ميزات عدة تُضاف لميزاتها التجارية. هذا إلى جانب مكانتها العلمية والفكرية التي جذبت إليها صفوة العصر؛ ومنهم ياقوت الحموي الذي أقام بها ثلاث سنوات مستعينًا بمكتباتها وخزائنها العامرة بالمعارف المتنوعة فاكتسبت «مرو» مكانة خاصة في نفسه وكوفي عام 1221م؛ عانت «مرو» من هجوم غاشم ومباغت بقيادة تولوي بن جنكيزخان؛ راح ضحيته آلاف من أهل المدينة؛ رجال ونساء وأطفال دون تمييز أو استثناء سوى للحرفيين وأهل الصنائع المميزة. فكانت نكبة على المدينة وتحضرها. وكانت هذه الضربة كفيلة بتوقف الحياة والحراك الحضاري فترة ليست بقليلة، لم تستطع بعدها «مرو» أن تستعيد مكانتها ورونقها بشكل كبير إلا في أيام الأمير تيمور في القرن الخامس عشر الميلادي. وذلك وفقًا لما أورده عنها المؤرخين المعاصرين وعلى رأسهم حمد الله المستوفي الذي ذكرها في كتاباته في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي؛ واصفًا إياها بأن الخراب ما زال مسيطرًا على أغلب أنحائها. كان إقليم «خُراسان» بشكل عام من الأقاليم المثيرة للقلاقل والمشكلاتوحركات التمرد والثورات في فترات زمنية مختلفة على مدار تاريخه؛ فاكتسب أهمية ومكانة لدى الحكام والسلاطين. فكان اختيار حاكم الإقليم أمر ليس بهين؛ فلا مفر من اختياره بعناية فائقة، وبمهارات إدارية تساهم في السيطرة على هذا الإقليم القلق في باطنه، وغالبًا ما كان السلطان يولي ابنه وولي عهده حكم هذا الإقليم. فمنها التدريب الفعلي والعملي على إدارة أمور وشئون الدولة، ومنها إحكام السيطرة والإمساك بزمام الأمور في هذا النطاق الجغرافي المثير للقلق، وبذلك يكون الحاكم جامعًا للثقة والولاء. ومن هنا.. كانت مدن الإقليم و«مرو» تحديدًا؛ محط اهتمام وعناية وزيارات متكررة من قِبل الحكام، فنجدها في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين؛ تضوي بزهو وفخر؛ بعمائر شتى، ما زال بعض منها قائمًا إلى اليوم شاهدًا على صفحة مشرقة من تاريخ المدينة. ومن أشهر ما بقي من عمائر «مرو» في القرن الثالث عشر الميلادي؛ مقبرة السلطان سنجر؛ التي كانت قبلة الزوار ونهاية مطافهم في المدينة، واستمرت هذه المقبرة محط إعجاب وفخر حتى القرن الرابع عشر الميلادي. فنجد رشيد الدين الهمداني يشير لزيارة السلطان غازان خان لمقبرة سنجر في مرو ويقرر أن يبني واحدة له يفخر بها ويدفن فيها بعد موته – فلم تكن من عادة المغول أن يتخذوا مقابر معلوم مكانها للجميع – بل أول من انتهج هذا الفكر هو السلطان غازان وبالفعل شيد مقبرته في «غازانية» بالقرب من «تبريز»لتكون: «أفخم من قبة السلطان سنجر السلجوقي في مرو، التي كانت تعد أعظم عمارة في العالم». ومن المثير للعجب أن مقبرة غازان هذه قد تهدمت واندثرت في زمن قصير، في حين بقيت مقبرة سنجر إلى اليوم. أصبحت «مرو» منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي وإلى اليوم؛ محط اهتمام وقبلة محببة لبعثات الحفائر الأجنبية، وأصبح موقع «مرو»بمثابة ملتقي ثقافي للبحث عن مكنوناتها وهوية خُراسان ومنها على سبيل المثال؛تجربة التعاون الدولي بين دولة تركمانستان والمملكة المتحدة في مشروع مشترك مثمر، استمر في الفترة من 1998 إلى 2000م لمدة ثلاث سنوات. وقد اعتمد المشروع بشكل أساسي على الحفائر في موقع مختلفة من المدينة اعتمدت على التصوير بالقمر الصناعي، وعمل مسح شامل ودقيق للمدينة ككل ولقنوات المياهوالصرف بشكل خاص. وكذلك تضمين كافة أعمال ونتائج الحفائر السابقة التي تمت في المدينة من قبل لأخذها بعين الاعتبار ودمجها مع نتائج المشروع الجديد.تاباته.؛ فأصبحت علامة مميزة لها. أما التجربة الثانية؛ فهي تجربة جامعة بامبرغ في ألمانيا بالتعاون مع متاحف ألمانية أخرى منها (متحف الفن الإسلامي ببرلين، متحف ليندنبشتوتغارت). وتتميز هذه التجربة أو المشروع البحثي عن المشروعات السابقةالتي تناولت إقليم «خُراسان» بشكل عام؛ في منهجية التناول والتحليل بالاعتماد على تحديد فترة زمنية محددة، وهي فترة العصر الإسلامي لإقليم خراسان ككل، وكذلك الدمج بين النتاج المعماري والفني للإقليم. وقد استمر المشروع طيلة ثلاث سنوات في الفترة من 2014 إلى 2017م، برئاسة الدكتور لورينز كورن بجامعة بامبرغ؛ وكانت فكرته قائمة على الدمج بين موروثات ونتاج إقليم خُراسان وتميزها عن باقي إنتاج منطقة «الصُغد» (ما وراء النهر) لا سيما مدن «سمرقند»و«بخارى»، وبين إنتاج «قاشان» و«الري» و«مازندران»، وشمال شرق فارس، وشمال غرب أفغانستان بشكل عام. وتحديد هوية الإقليم وموروثه وبصمته. وكانت مرو نقطة ارتكاز ومحط الأنظار لما تحفظه من ميراث زاخر. «مرو» .. نقطة مضيئة في إقليم خُراسان وطريق الحرير الدولي، وما زالت تسعى على الدرب صامدة أمام منعطفات التاريخ وتغيراته، شاهدة على فترات مجد وقوة، ووهن وضعف لم يعقبه أبدًا استسلام؛ بل سعي مستمر للأفضل.

مشاركة :