بيروت – يطالب اللبنانيون منذ أشهر بتغيير نظام قائم على المحاصصة الطائفية والسياسية وبرحيل كل الطبقة السياسية التي يتهمونها بالفساد والإهمال وحتى الاستهتار بحياتهم. وأتى انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس ليزيد إصرارهم على المواجهة. وبعد ثلاثة أسابيع من وقوع انفجار كارثي في بيروت، أسفر عن مقتل ما يقرب من 200 شخص وتشريد الآلاف، لم يلُح التغيير الذي كان يأمل الكثير من اللبنانيين في حدوثه. بل على العكس استغلت الطبقة السياسية الحادثة للمزيد من المماطلة وإبقاء الوضع كما هو عليه في السابق لضمان بقائها في الحكم. وأظهر تقرير نشرته وكالة أسوشيتد برس صعوبة إحداث تغيير حقيقي في البلد في ظل نفوذ أحزاب طائفية مثل حزب الله واسع القواعد وإحدى أبرز أذرع إيران في المنطقة، في ظل استمراره في تنفيذ الأجندة الإيرانية التخريبية التي تقتضي مسكه بمفاتيح الحكم، دون اكتراث لأوجاع الشارع أو الإصغاء إلى مطالبهم. وأشارت سامية كولاب محررة التقرير أن نفس السياسيين الذين يُلقي فسادهم وإهمالهم باللائمة على الكارثة، يتفاوضون في ما بينهم على تشكيل حكومة جديدة بعد استقالة حكومة حسان دياب، كما تلاشت الدعوات إلى إجراء انتخابات مبكرة. وبالنسبة إلى شعب بيروت المدمر، الذي ما زال يلملم شظايا الزجاج ويصلح ما تكسر في المنازل، فقد كشف الانفجار إلى أي مدى لا يزال نظام المحسوبية الراسخ غير قابل للتعديل أو الإصلاح. انفجار مرفأ بيروت يكشف إلى أي مدى لا يزال نظام المحسوبية الراسخ غير قابل للتعديل أو الإصلاح وثبُت في الواقع أن الأدوات التي استخدمتها النخبة الحاكمة لضمان إحكام قبضتها على السلطة خلال الثلاثين عاما الماضية هي الأكثر قوة اليوم. حيث يمنحها الفقر المتزايد وسط أزمة اقتصادية حادة نفوذا أكبر، خاصة مع ازدياد أعداد اليائسين للحصول على مداخيلهم التي توفرها لهم الحكومة. لقد أصبحت قبضتها على السياسة الانتخابية أكثر إحكاما بسبب قانون الانتخابات الذي أقرته في عام 2017، مما جعل من الصعب على المستقلين الفوز بمقاعد. قال نزار حسن، ناشط مدني منضمّ إلى حركة “لي حقي”، وهي حركة سياسية ناشطة في الاحتجاجات الجماهيرية المناهضة للحكومة “في الأساس، ليس لدينا طريقة لإجبارهم على الخروج”. والأحزاب السياسية في لبنان طائفية تماما، كل منها متجذر في واحدة من المجتمعات الدينية أو العرقية المتعددة في البلاد. وقد رأس معظمها أمراء حرب طائفيون من الحرب الأهلية اللبنانية 1975 - 1990، أو أفراد من عائلاتهم، الذين يترأسون الشركات المحلية القوية. كما توزع هذه الفصائل المناصب في الوزارات والمؤسسات العامة على أتباعها أو تقسم لهم قطاعات أعمال تضمن بها دعمهم. وتكافح أحزاب المعارضة التي تتجاوز الخطوط الطائفية بأجندة إصلاحية لكسر هذا الحاجز. لكنها منقسمة وتفتقر إلى الدعم الشعبي. كما قوبلت بالقوة الغاشمة من قبل الأجهزة الأمنية لردع دعوات التغيير المتصاعدة. لا شك أن احتجاجات الشارع قوية، لكن حسن يلفت إلى أن الحركات الاحتجاجية المناهضة للحكومة لم تكن قوية بما يكفي للضغط من أجل فرض خطة إصلاحات جذرية. ولم تكن الحركات المدنية مثل “لي حقي” ممولة بشكل جيد، فتواجه الترهيب وبالكاد تستطيع حجز وقت للبث على القنوات الرئيسية، إذ تستحوذ النخب السياسية على المنصات الإعلامية. النظام محصن ضد الإصلاح من يصغي إلى شعب بيروت المدمر ولفت حسن ونشطاء آخرون إلى أن هناك بصيص أمل في الدعم المتزايد من رجال الأعمال الذين كانوا يمولون النخب في السابق لكنهم أصبحوا محبطين الآن. وقال بول أبونصر، عضو نقابة الصناعيين اللبنانيين، إن أصحاب الأعمال بدأوا يغيرون مواقفهم في بداية العام، مع تدهور الاقتصاد، واشتداد التضخم، وسقوط الكثير من الناس في دائرة الفقر. وقد تُرجم ذلك إلى إرسال الأموال لدعم المجتمع المدني، وإن كان المسعى من وراء ذلك كسب التأييد وتحقيق المكاسب. وأقر أبونصر بأن الصناعيين ورجال الأعمال ساعدوا في دعم نظام المحسوبية، لكن معظمهم “أُجبر على هذا”. ومن ثم ساعد السياسيون الشركات من خلال الرشاوى والدعم السياسي عند الحاجة. وبالنسبة إلى أولئك الموجودين داخل الحكومة والذين واكبوا النظام من الداخل، يؤكدون أنه لا يستطيع إصلاح نفسه. وقال خليل جبارة، الذي ترك وظيفته كمستشار في وزارة الداخلية “الناس مثلي، بعد سنوات في عالم الحكم، يشعرون بشكل أساسي بأن النظام محصن ضد الإصلاح”. وأوضح جبارة، وهو الآن مستشار في البنك الدولي “لكن في نفس الوقت، فإن الانهيار الكامل للنظام سيطلق العنان لجميع أنواع الصراعات الطائفية”. النظام محصن ضد الإصلاح النظام محصن ضد الإصلاح لم تأت صحوة النشطاء اللبنانيين هذه خلال انتفاضة أكتوبر، عندما خرج عشرات الآلاف إلى الشوارع احتجاجا على الطبقة السياسية الفاسدة، ولكن ظهرت قبل أربع سنوات عندما أجرت بيروت انتخابات بلدية، بعد سنوات طويلة من الإقصاء. وكانت هذه هي المرة الأولى التي تفوز فيها قائمة مرشحة خرجت من حركة احتجاجية، وهي “بيروت مدينتي”، في دائرة انتخابية. وكنتيجة لذلك، شجع الانتصار المتواضع النشطاء على التطلع إلى صناديق الاقتراع لإحداث التغيير. هذه النتائج أفزعت النخب. وفي العام التالي، صدر قانون انتخابي جديد، وهو إنشاء نظام التمثيل النسبي الذي يهدف ظاهريا إلى تلبية مطالب المجتمع المدني وتحسين تمثيل طوائف الأقليات. كانت وراء هذه الخطوة مناورة جديدة، حيث كشفت الخبيرة في الانتخابات أمل حمدان قائلة “قاموا بتقسيم كل جانب من جوانب القانون من أجل ضمان إعادة انتخاب جميع الأحزاب السياسية في السلطة وعدم إمكانية انتخاب أيّ من أصوات المعارضة”. واستنتج ناشطون مثل حسن أن المشكلة الأساسية تكمن في نقص الدعم الشعبي لبدء تغيير سياسي حقيقي. وأضاف “عندما يتعلق الأمر بالهيمنة السياسية الفعلية على النسيج الاجتماعي، كل شيء يتجلى حقا على المستوى المحلي”. ومع تراجع الليرة اللبنانية، يخشى حسن أن يكون للأحزاب الحاكمة نفوذ أكبر من ذي قبل. ويختم بالقول “شراء الناس أرخص الآن، بالنسبة إليهم”.
مشاركة :