منذ بضعة أعوام، يسكن الديمقراطيات الغربية خوف من الدور الخطير الذي تؤدّيه المواقع الاجتماعية في تغيير الرأي العام وحتى تأليبه على الحكام، بدعوى أن تلك المواقع تروّج لخطاب الكراهية، والأخبار الزائفة، ونظريات المؤامرة. ولكنها لم تتساءل إلا في القليل النادر عن أسباب انصراف الجماهير عن وسائل الإعلام الكبرى وإيثارها تلك المواقع. قرأنا، كما قرأ غيرنا، ما صرّح به الفيلسوف والسيميائي الإيطالي أمبرتو إيكو قبيل وفاته، عما آل إليه الوضع بحلول الإنترنت وانتشار المواقع الاجتماعية، حيث قال “أُعطيَ حقُّ الكلام لفيالق من الأغبياء كانوا من قبل لا يتكلمون إلا في البار، بعد كأس أو اثنتين، ولم يكونوا يسيئون إلى المجموعة، إذ كان يتمّ إسكاتهم فورا، أما اليوم، فلهم من الحقّ في الكلام ما لفائز بجائزة نوبل”. وقد قوبل تصريحه ذاك بمواقف متناقضة، منهم من عدّ قولته تعاليا على العامّة، ومعارضة لمبدأ دمقرطة المعرفة ومصادرة لحق الشعوب في التعبير، بل ثمة من اعتبرها خطأ جسيما وراح يكيل له الشتائم، عبر الإنترنت طبعا، وبأسماء مستعارة كعادة المتهجّمين في الشبكة، ما دفعه إلى الرّد في أكثر من وسيلة إعلامية. التحول إلى سلطة في رده أكد أمبرتو إيكو على خطورة الإنترنت، حيث أوضح أن على المرء التسلّح قبل استخدامها، فهي كما قال أشبه بسيارة سباق بالغة السرعة، إذا لم يعرف قيادتها فسوف يصطدم بالحائط مباشرة. ومنهم من أيّد ما ذهب إليه الفيلسوف الإيطالي، بعد أن أصبح كلّ مستخدم له تقريبا كيان ينطق بحقيقته، يستوي في ذلك العارف والجاهل. وهو ما لخّصه إيكو في قوله “لئن ساهمت التلفزة في الاحتفاء بأبله القرية، الذي يحسّ المشاهد العاديّ أنه يفوقه ويمتاز عليه، فإن الإنترنت جاءت لتجعل من أبله القرية حمّال حقيقة”. الإنترنت أشبه بسيارة سباق بالغة السرعة لقد حيا الجميع ظهور الإنترنت في بداياتها، ورأوا فيها علاجا لكل الأدواء الأيديولوجية، وفضاء تحقق فيه حرية الكلمة التقاربَ بين البشر على اختلاف مللهم ونحلهم، بغض النظر عن الدوافع التجارية والرقابية لصنّاعها، ولكن سرعان ما تحوّلت إلى جحيم مفتوح يدخله الحقد والكراهية والسّباب، وتروج فيه خطابات الدجل والخرافة والأخبار الزائفة. بيد أن الأخطر من كل ذلك أن المواقع الاجتماعية، التي يسّرت الإنترنت بروزها، تحوّلت إلى سلطة، تجد آذانا صاغية، ومريدين، ومناصرين، بل صارت في نظر شرائح واسعة هي التي تنطق بالحقيقة، وما عداها زيف وتدجيل. وهذا ما عبّر عنه الكوميدي الفرنسي كولوش بقوله “الشيء الوحيد الصحيح في الجرائد هو تاريخ الصّدور”. فما الذي يجعل الناس يقبلون على المواقع الاجتماعية ويصدّقون ما تروّجه، ويديرون الظهر لوسائل الإعلام الكبرى، الرسميّة منها والخاصة؟ لقد كانت وسائل الإعلام حمّالة لسرديات كبرى، ثم بدأت تفقد موقعها تدريجيّا كفضاء للتعبير والحوار ووسيط بين الحركات العميقة للمجتمع وأصحاب القرار، حتى باتت لا تستحوذ إلا على اهتمام من تعوّدوا على اتّخاذها مصدرا أساسا للمعلومات وموقعا للتحليل والاستشراف، وهم في العادة ممن تجاوزوا الستين. فمنذ مطلع الألفية فقدت تلك الوسائل التقليدية موقعها المركزي وصارت طرفا من الأطراف المتنافسة في تشكيل الرأي العام وتوجيهه، إذ زاحمتها المواقع الاجتماعية ونابت عنها في أكثر من مجال. والسبب وجود شرخ كبير بين الماسكين بالسلطة والدائرين في فلكها، وبين المبعَدين عن الحقل الإعلامي، وبما أن المنسيّين أو المبعَدين عن هذا الفضاء لا يجدون في تلك الوسائل تعبيرا عن آرائهم ومطالبهم، صاروا يستخدمون المواقع الاجتماعية لنشر أفكارهم في ما بينهم، وتعميمها على من يهمّهم الأمر. الإنترنت بين عالمين في هذا الظرف الإعلامي الواقع بين الجلاء والعتمة، بين عالم تحريري يتداعى وآخر لم تتضح خيوطه بعد، نشأ ما أسماه بعض المحللين “الشعبوية الرقمية”، عبر مواقع استطاعت أن تمثل المرحلة الأولى من انهيار السدود الفكرية التي كانت تحمي الناس من الخطابات الراديكالية على اختلاف مشاربها، مثلما تحميهم من خطابات الجهل والتكفير والعنصرية وتزييف الحقائق والتاريخ. وفي غياب التنظيمات الحزبية والنقابية والثقافية أو عجزها عن تأطير المطالب الشعبية وطرحها على السلطة الحاكمة بشكل واضح ومدروس، ظهرت عدة أشكال من الاحتجاجات الاجتماعية وجدت في المواقع الإلكترونية صندوقا يردد أصداءها، واستطاعت أن تستقطب شرائح مجتمعية عديدة، لا يستثنى منها حتى المتعلمون. مثلما ظهرت أشكال أخرى تستغل تراجع وسائل الإعلام عن دورها التقليدي، إما لكونها ضحية الزحف الرقمي، أو لكونها مموّلة من رؤوس الأموال، لتبث خطابا شعبويا يضع في عمومه موضع شكّ كل ما يصدر عن الجهات الرسمية، أيّا ما يكن تخصصها، وتطرح رؤيتها الخاصة لمختلف القضايا التي تشغل الناس، فلا تكتفي بانتقاد الحكام ومن وراءهم من الليبراليين، بل تتجاوزهم إلى الطعن حتى في المسلّمات العلمية، التي غدت في أذهان الناس جميعا من الحقائق الثابتة، لتطرح حقيقتها هي وتدافع عنها بالمخلب والناب. ما أوجد عالما تهيمن فيه “الثقة في الأسفل وتحدي الأعلى” بعبارة الباحث السياسي الفرنسي باسكال بيرّينو، أي الثقة في من هو قريب ومماثل، نعرفه ونعايشه ونحس أنه منّا وإلينا، وتحدي من يبدو بعيدا، يعيش في طبقة أخرى وعالم آخر. وسائل الإعلام فقدت دورها كفضاء للتعبير والحوار وظهرت بديلا عنها المواقع الاجتماعية ولئن خلقت بعض المواقع الاجتماعية عندنا نجوما زائفة، فإن بعضها الآخر ساهم أيضا في الكشف عن المسكوت عنه، وفضح ممارسات وجرائم فساد تتستر عليها السلطة وأذنابها، حتى صار النّاس يطالعون الأخبار من فيسبوك أكثر مما يطالعونها في وسائل الإعلام. وهذا يذكرنا بالشأن التونسي، في دولة الاستقلال والسيادة ودولة التحول والتغيير، حين كان التونسيون يكتشفون ما يجري في بلادهم من خلال المحطات الإذاعية والقنوات التلفزيونية الأجنبية. ومن السهل أن يتشكل الرأي العامّ وفق ما تبثه تلك الوسائل من معطيات، حتى وإن كانت كاذبة، فما البال إذا باتت تلك الوسائل في متناول أي شخص، لا يكتفي بالتقاطها وتصديقها فقط، بل يزيد عليها، ويضخمها بما يشبع رغبته ويلبيّ ميوله، ويسعى جهده كي يقنع بها أمثاله. والحق أن الإنترنت مرآة المجتمعات البشرية في هذا العصر، كشفت عما يتسم به بعضهم من ثقافة ومعرفة وسعة اطلاع، مثلما فضحت مقدار الجهل الذي يعشش في عقول الكثيرين. في كتاب “البابا، الشيطان، حلب، وقائع مجتمع سائل”، يقول إيكو “فيسبوك كثّف المؤامرات والمقالب، ونشر الأكاذيب الأكثر غرابة، ودعّم الخرافات والتطير، واحتفى بمزاعم كل فرد”. كل ذلك هو الذي يهدّد اليوم بتشكيل الرأي العام. ShareWhatsAppTwitterFacebook
مشاركة :