ولادة جديدة للحس القومي في دول الشرق الأوسط | | صحيفة العرب

  • 9/10/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

فرضت التحولات الجيوسياسية المتسارعة في الشرق الأوسط ولادة حس قومي جديد لدى بعض بلدان المنطقة الساعية إلى التمرد على النظرة النمطية الراسخة في أذهان الكثيرين حول الأسباب الحقيقية وراء ظهور الأيديولوجيا الإسلاموية، ومدى استيعابها للمشاكل المتنوعة، التي أفرزها التزاوج بين الدولة والدين، وقدرتها على معالجتها، حيث يرى محللون وباحثون أنها بداية الطريق فقط للتأقلم مع الواقع الملموس، الذي يؤسس لثورة فكرية تقطع مع الإسلام السياسي في إدارة الدولة. لندن – تترسخ فكرة بين المتابعين لديناميكية الفكر السياسي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مفادها أن الأيديولوجيا الإسلاموية التي تدعو إلى إقامة خلافة واحدة باتت تشكل خطرا على الاستقرار، بعد أن كانت مسكّناً لإمبراطوريات المنطقة، والتي تلاشت، في ظل تحول دول مثل الإمارات والسعودية نحو القومية لتعريف سياساتها وسلوكها وفق ما تقتضيه المرحلة الحرجة التي يمر بها العالم. وارتفع منسوب النقاشات في الآونة الأخيرة داخل الأوساط الأكاديمية والسياسية المهتمة بشؤون الشرق الأوسط في الغرب وفي المنطقة العربية حول مسألة إعادة تأسيس مفهوم القومية في ظل ما يحدث من سجالات عميقة حول عدة قضايا باتت الشغل الشاغل لبعض الدول. ويتّفق معظم الخبراء والباحثين على أن هذا المسار الجديد يدور في فلك نقطة محورية طرحت كثيرا للنقاش، تتعلق بالآليات التي قد تكون بيد الأنظمة الحاكمة في المنطقة للتصدي لظاهرة التطرّف، وليصل في نهاية المطاف إلى تأسيس علاقات تكون بعيدة عن الأيديولوجيا الدينية. وحتى الدول التي لا تزال تدعي تجسيد مُثل الحركة القومية، مثل قطر وتركيا، تفعل ذلك فقط كوسيلة لتحقيق غاية قومية، مستغلة ما تتبناه من وعظ للوحدة الإسلامية لإظهار قوة حكوماتها في الداخل والخارج وكذلك كسب التعاطف لدى شعوب المنطقة وبالتالي تجسيد سياساتها على أرض الواقع. ويعتقد محللو مركز ستراتفور للدراسات الإستراتيجية والأمنية الأميركي أن هذا الاتجاه ظهر بوضوح من خلال اتفاقية التطبيع بين الإمارات وإسرائيل، حيث تم توجيه ضربة أخرى لفكرة أن المجتمع الإسلامي العالمي، على الرغم من اختلافاته العديدة، يمكنه على الأقل الاتفاق على قضايا مثل القضية الفلسطينية. وهنا لا بد من تسليط الضوء وبطريقة أعمق على هذه المسألة الحساسة التي باتت تطبع منطقة الشرق الأوسط، والبحث في ما إذا كانت التيارات الإسلامية، أو الأيديولوجيا الإسلاموية، تعد النموذج الملهم لشعوب المنطقة والضامن الحقيقي لمسار العدالة في كل أوجهها. بداية النشوء لقد ظهرت القومية الإسلامية بعد الحرب العالمية الأولى كمقابل أيديولوجي لتعدي المثل الأوروبية، وعندما حطمت الإمبريالية الأوروبية الإمبراطورية العثمانية واستعمرت العالم الإسلامي، سعى القادة المسلمون إلى تبني أنماط جديدة من الفكر السياسي لقلب تيار القوة الغربية. ريان بول: الأيديولوجيا الإسلاموية فشلت في حل خلافات الدول العربية ريان بول: الأيديولوجيا الإسلاموية فشلت في حل خلافات الدول العربية وخلال تلك الفترة اعتنق البعض نموذج الدولة القومية للمستعمرين. واشتهر الرئيس التركي مصطفى كمال أتاتورك، الذي حكم في الفترة الممتدة بين عامي 1923 و1938، بإلغاء الخلافة السنية في محاولته لتحويل رماد الدولة العثمانية إلى تركيا حديثة قادرة على المنافسة. وخارج تركيا، حاول البعض تبني العروبة، التي جسدها الرئيس المصري جمال عبدالناصر، الذي حكم في الفترة الممتدة بين عامي 1954 و1970، والذي سعى إلى إنشاء عالم عربي موحد سياسيًا. ولكن بعد أن عانت مصر من هزائم عسكرية متكررة ضد إسرائيل في عامي 1967 و1973، ووفاة عبدالناصر في عام 1970، تضاءلت القومية العربية بوتيرة متسارعة. وقد أعطى ذلك مساحة لأولئك الذين سعوا إلى تحديث الحكم الإسلامي، واستعاروا جوانب من الدولة القومية الغربية بينما لم يتبنوا بالكامل القومية العلمانية المثيرة للانقسام في أوروبا. وساعدت القومية الإسلامية في تشكيل العقود الاجتماعية لدول الشرق الأوسط الناشئة، التي بدأت مساراتها الخاصة بعد إنهاء الاستعمار، واعتنقت العديد من الدول حديثة التأسيس الشريعة الإسلامية في دساتيرها ومحاكمها، وغلّفت تقاليدها السياسية بألقاب وطقوس إسلامية. وفي حين أن بعض الدول قاومت النفوذ الإسلامي الشامل، إلا أن معظمها إما تغلب عليها أو تكيفت في النهاية مع الضغوط المتزايدة للإسلاميين داخل حدودها. وعلى سبيل المثال، ساعدت معارضة الشاه الإيراني محمد رضا بهلوي للوحدة الإسلامية في الإطاحة به واستبداله بالجمهورية الإسلامية عام 1979. كما تسبب برنامج التحديث المتواضع في السعودية خلال سبعينات القرن الماضي في إثارة رد فعل إسلامي عنيف في مكة في نفس العام، مما أقنع الرياض بتسليم الكثير من بنود العقد الاجتماعي للبلاد إلى الإسلاميين حتى عام 2010 قبل أن تبدأ القطيعة مع هذا التيار بوصول العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى سدة الحكم والشروع في رسم معالم دولة حديثة منفتحة على الخارج ودون أن تتكبل مشاريعها. وفي العراق، حتى صدام حسين العلماني ظاهرياً تحول إلى الإسلاموية في تسعينات القرن الماضي مع تضاؤل القومية العراقية بعد الهزيمة في الكويت، مما أضاف جزءًا من العقيدة الإسلامية إلى العلم الوطني العراقي. أيديولوجيا مُكبلة تركيز على القضايا المهمة تركيز على القضايا المهمة مع اشتدادا الأزمات وتكاثر التهديدات والصراعات في المنطقة التي تعصف بأمن دولها القومي، وفي ضوء البحث عن سبل مواجهة هذه المشاكل ومسبباتها، عاد الحديث بقوة عن القومية العربية المشتركة كإحدى أهم وسائل التصدّي لهذه الصراعات التي تشترك في معطى رئيسي وهو التطرف والإرهاب تحت تفسيرات دينية مغلوطة. ويؤكد ريان بول المحلل المتخصص في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لدى مركز ستراتفور أنه على الرغم من الدعوة إلى الوحدة في العالم الإسلامي، إلا أن الأيديولوجيا التي تقوم عليها الإسلاموية أثبتت أنها غير قادرة على حل الخلافات الوطنية بين الدول الإسلامية المختلفة، كما يتضح من الحرب الإيرانية العراقية المدمرة بين عامي 1980 و1988 التي أعقبتها حرب الخليج في 1990 و1991، وألهمت في النهاية المتطرفين مثل تنظيمَيْ داعش والقاعدة. ويرى بول أن أتباع هذه الأيديولوجيا انقسموا حول الشكل الدقيق الذي يجب أن تتخذه الإسلاموية؛ فقد دعا البعض، مثل أعضاء حزب العدالة والتنمية التركي، إلى اتباع نهج من القاعدة إلى القمة الذي يحكم المجتمع ثم أثر في الحياة السياسية. وبعد ذلك فضل آخرون، بمن فيهم الإسلاميون الشيعة في العراق وإيران، نهجًا من أعلى إلى أسفل بحيث تتصدر الأيديولوجيا السياسة، لكن ربما الأهم من ذلك أن الإسلاميين لم يكن لديهم الكثير لإظهاره في تعزيز دعمهم للقضية الفلسطينية، وهي القضية التي، من الناحية النظرية، يجب أن تكون الأكثر توحيدًا بين جميع الدول الإسلامية. في الواقع، وعلى كل من الجبهة الدبلوماسية والعسكرية، لم تقدم الوحدة الإسلامية تقدما يُذكر للفلسطينيين في صراعهم المستمر مع إسرائيل. وقد دعت الأجنحة الأكثر اعتدالًا في حركة الوحدة الإسلامية إلى عزل إسرائيل حتى تقايض الضفة الغربية وقطاع غزة بالفلسطينيين من أجل عقد معاهدة سلام إقليمية. ويرى بول أن هذه الدعوات إلى تدمير إسرائيل من قبل متطرفي الحركة طغت على هذا الموقف المعتدل وأبعدت حلفاء إسرائيل الأقوياء في الغرب، ولاسيما الولايات المتحدة، الذين كانوا مفتاحًا لعمل تسوية دولية. وبدورهم قام الدبلوماسيون الإسرائيليون برسم الحركة القومية بأكملها بنفس فرشاة التطرف، بحجة أن الحركات الإسلامية، بشكل عام، تشكل تهديدًا وجوديًا لإسرائيل. وبالنسبة إلى بعض الدول، لاسيما الإمارات والسعودية، فقد أجبرتها اضطرابات الربيع العربي في عام 2011 على مواجهة الإمكانات الثورية للحركة الإسلامية، وأعطت دوامة الثورة كلاً من الإسلاميين المعتدلين والمتطرفين فرصة ليحلوا أخيرًا محل الأنظمة واستعراض القوة. فقد استولى الإخوان المسلمون على مصر وجيشها، بينما انطلق المتطرفون في الحرب الأهلية السورية وشرعوا في بناء دول أولية مصممة للتصدير إلى الخارج. وبالنسبة إلى بعض الدول، أثبتت هذه التطورات المقلقة الحاجة إلى التغيير السريع للعلاقة الحميمة بين الدولة والمسجد، خشية أن تصبح الحركات الإسلامية الأخرى قوية بما يكفي للإطاحة بالمزيد من الحكومات. حقائق الواقع محاولة لإعادة تأسيس مفهوم القومية محاولة لإعادة تأسيس مفهوم القومية تم وضع الحركات القومية الناشئة في دول مثل عُمان والبحرين والسعودية في حالة من السرعة الزائدة، حيث نظرت الحكومات إلى أساس عقودها الاجتماعية وفقًا للمثل القومية التي عمل الإسلاميون على تقويضها لعقود. ومع تحول دول الشرق الأوسط نحو الحفاظ على نفسها، أصبح إقحام نفسها في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أقل منطقية. وبالنسبة إلى دول مثل الإمارات، كان التركيز على القضية الفلسطينية يهدف إلى تعزيز عقد اجتماعي صديق للإسلاميين مع سكانها المحليين. ولكن مع تغير تصور أبوظبي للتهديد، بدأ يُنظر إلى الإسلاميين لا على أنهم ملازمون للعقد الاجتماعي، ولكن كعملاء لعفن ثوري محتمل. ونتيجة لذلك لم يتم إسقاط القضية الفلسطينية من الأولويات فحسب، بل بدأت تصبح معادية للمصالح الوطنية، حيث أدى عزل إسرائيل إلى حرمان الإمارات من الوصول إلى التعاون التكنولوجي والتجاري والأمني المتزايد الأهمية بالنسبة إلى إسرائيل. وفي المحصلة لم تكن كل الدول سريعة في الابتعاد عن الأيديولوجيا الإسلاموية. ففي ليبيا تجلت الوحدة الإسلامية في إنشاء معاهدة حدودية بحرية مثيرة للجدل في عام 2020 مع حكومة الوفاق الوطني المحسوبة على تيار الإسلام السياسي والمقربة من حكومة الإخوان في تركيا. وينطبق هذا الأمر على سوريا، فنظام بشار الأسد يشكل حلفاؤه ذوو الميول الإسلامية العمود الفقري للميليشيات التي تسيطر على ما تبقى من مناطق المعارضة، المدعومة من تركيا، في الشمال الغربي للبلاد، وكذلك الأكراد المدعومون من الولايات المتحدة، وبالتالي تُبعد ملايين اللاجئين السوريين الذين تجد أنقرة أنها لا يمكن تحمل تكلفتهم. ولا تزال كل من تركيا وقطر، الحليفين اللذين اجتمعا على فكرة دعم تيارات الإسلام السياسي في بلدان المنطقة، تحاولان وسط كل هذه المعمعة استخدام القومية الإسلامية لإبراز القوة في الخارج، على الرغم من أن أهدافهما الأساسية لا تزال قومية بطبيعتها أكثر منها دينية. ويقول المحلل الإستراتيجي بول إن أنقرة تقوم اليوم بتمرير السلطة من خلال الحركات الإسلامية والسياسيين كتعبير عن المصلحة الذاتية التركية كما أن تقارب البلد مع جماعة الإخوان المسلمين منح قطر الطريق لإنشاء قاعدة عسكرية في الخليج العربي لأول مرة منذ أكثر من قرن، والذي بدوره عمل على تقوية علاقات أنقرة بالدوحة الثرية، التي تدخلت في بعض الأحيان لتخفيف ويلات تراجع العملة التركية. واستغلت قطر، تحديدا، قوتها الإعلامية لإثارة السرد المحلي الذي يربط السعودية بالحركة الإسلامية في محاولة لتعزيز شرعية النظام الملكي، الذي يجب أن يوازن بين قبيلة ملكية مع تاريخ من الانقلابات، وكذلك حملات التأثير السعودية والإماراتية طويلة الأمد. لكن في الخارج، لا تزال قطر تنظر إلى القومية الإسلامية على أنها وسيلة لتأمين نفسها، فقد ساعد قرب الدوحة من الأيديولوجيا الإسلاموية على الحفاظ على العلاقات مع حماس، وهي فرع آخر من جماعة الإخوان المسلمين، وتعد هذه العلاقات قيّمة بالنسبة إلى إسرائيل التي تستخدمها لإبقاء نشاط حماس في قطاع غزة تحت السيطرة. وفي المقابل، يساعد الإسرائيليون في تعزيز صورة قطر كوسيط سلام إقليمي، لاسيما في الولايات المتحدة، وتقويض الهجمات من الإمارات والسعودية. ومع ذلك، حتى أثناء التعامل مع الوحدة الإسلامية، فمن الواضح أن تركيا وقطر تستخدمان أيضًا الحركة لتحقيق المصلحة الذاتية. ولا يحاول أي منهما إنتاج حركات إسلامية قوية بما يكفي لتحل محل أنظمتها الخاصة. وبدلاً من ذلك، تعتبر تركيا وقطر الإسلاميين مجرد أداة في إستراتيجيات أنقرة والدوحة الاجتماعية في الداخل وإستراتيجيات القوة الناعمة في الخارج، ويظلون خاضعين للأهداف الوطنية لأي من الدولتين. وبهذا المعنى، فإن رفض تركيا لاتفاق التطبيع الجديد بين الإمارات وإسرائيل، وتحفظ قطر الحالي في هذا الصدد، لا تحركهما أيديولوجيات الوحدة الإسلامية بل المصالح القومية. وبالنسبة إلى كلا الدولتين، فإن التطبيع العلني لعلاقاتهما مع إسرائيل يمكن أن يقوض علاقة حزبيهما الحاكمين مع أنصارهما الإسلاميين في الداخل والخارج. وفي الوقت الحالي، على الأقل، لن تستحق مكاسب التطبيع من خلال التجارة والدفاع والعلاقات الإيجابية مع الولايات المتحدة، فقدان الشرعية التي يمكن أن تضر بالعلاقات لكل من أنقرة والدوحة. وفي غضون ذلك، فإن القيمة الاجتماعية والسياسية المتدهورة للوحدة الإسلامية تعني أن الأيديولوجيا ستصبح أقل جوهرا لسياسات وسلوك تركيا وقطر.

مشاركة :