للتحولات التاريخية والأحداث الدموية جراء الحروب والقتال المسلح؛ دور كبير في نكبة بعض المدن وأفولها وأحيانًا اندثارها؛ وعلى الجانب الآخر تزدهر مدن أخرى وتتألق وتتسع رقعتها الجغرافية والتاريخية. ولكن.. الثقل التاريخي والسياسي والديني والاجتماعي للمدن يلعب دور مهم في تعزيز هذا الإشراق والتوهج الجديد الذي يبدو لوهلة أنه جاء فجأة.. ومثال على ذلك ما حدث عقب الغزو المغولي لمدن شمال فارس في الحملة الأولى في الربع الأول من القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، والتي قادها جنكيز خان؛ فكانت مدينة «الري» من المدن التي خربت وتضررت بشدة جراء هذا الغزو الغاشم والمدمر لبنيتها الأساسية وسُبل الحياة فيها، فهجرها أهلها ونزحوا إلى الجنوب حيث قرية «ورامين» وتنطق فرامين Varamin والتي تبعد قليلاً عن مسقط رأسهم ونشأتهم؛ شهر ري «الري»؛ خوفًا وهربًا من جحافل المغول الغاشمة التي عاثت فسادًا وقتلاً في البلاد؛ فبزغ نجم «ورامين» وازدهرت عندما أفل نجم مدينة الري وعلى حساب نكبتها.. فحين مر ياقوت الحموي في ذلك الزمان بأطلال الري الخربة قال: «رأيت حيطان خرابها قائمًا وقد خربت دورها». ومن ثم كانت «ورامين» قِبلة مناسبة وجد فيها أهل الري ملجأهم وملاذهم الآمن نفسيًّا على الأقل. وفي الوقت نفسه فشلت محاولات إعادة إعمار المدينة المنكوبة أكثر من مرة لعل أهمها وأكثرها جدية محاولة السلطان محمود غازان خان عندما أصدار قرارات إدارية محفزة ومشجعة لانقاذها من الخراب المستحوذ عليها فأمر بإعادة بناء المدينة وإعمارها والسكن فيها. ولكنه لم يوفق في ذلك لأن سكانها كانوا قد انتقلوا عنها إلى «ورامين» و«تهران» المجاورتان لها، لاسيما إلى الأولى إذ كانت أطيب هواء من الري القديمة. و«ورامين» قرية صغيرة، كانت يومًا من قرى مدينة الري، وكانت «الري» محطة رئيسية ومهمة من محطات طريق الحرير البري. أما الآن فورامين تتبع محافظة طهران، وتقع في شمال فارس.. وقد واكب هذا النزوح البشري؛ نمو حضري وحضاري ومعماري في هذه القرية الصغيرة التي اتسعت شيئًا فشيئًا وأصبحت محط اهتمام الحكام فيما بعد. فعقب الهدوء النسبي الذي تمتعت به مدن فارس تحت حكم المغول الإيلخانيين استقر أهل الري المنكوبة في قريتان؛ الأولى: في الجنوب وهي «ورامين»، والثانية: في الشمال وهي «تهران» ويفصل بينهم ما يقرب من 40 كليومتر فقط. فكانت المنافسة شرسة بين كل من مدينة ورامين وتهران، لتصبح كل منهما المحطة البديلة لقوافل التجارة والرحلات التجارية والمسافرين على طريق الحرير.. والتي حُسمت سريعًا لصالح «تهران» نتيجة لموقعها الجغرافي الأكثر يسرًا للتجار المنتقلين من مشهد وسمنان وتهران وقاشان وتبريز وبغداد. ولكن كان لمدينة «ورامين» نصيب كبير في التألق الحضاري والفني والمعماري رغم خسارتها للمنافسه التجارية لصالح تهران؛ فأصبحت ورامين قبلة للبناء والتعمير ومنها خرجت مجموعات من أجمل وأفخم البلاطات القاشانية التي استقرت في متاحف أوروبا والولايات المتحدة وروسيا، ليُخلد اسم ورامين متألقًا بين دارسي العمارة والفنون الإسلامية وبين زوار المتاحف وداخل قاعات الخزف تحديدًا. فكيف ولماذا؟! تلك هي قصة ورامين؛ المدينة التي نافست بقوة لتصبح على الطريق التجاري الدولي/ الحرير؛ فاستقر بها الحال لؤلؤة على طريق العمارة والفنون. فالمدينة التي لم تساعدها الجغرافيا الطبيعية لتكون محطة على طريق الحرير؛ كان الحظ حليفها في تحويلها إلى مركز ديني وفني ومعماري متميز خلال النصف الثاني من القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، ففيها دُفن إمامزادة يحيى بن عبد الرحمن بن قاسم بن حسن بن زيد بن الإمام حسن، ويرجع نسبه إلى الإمام الحسن رضي الله عنه. والإمامزادة: هو أحد أحفاد الأئمة الاثنى عشر في المذهب الشيعي الأثني عشرية، بمعنى ابن ابن الإمام وينتهي نسبه بأحد هؤلاء الأئمة. وقد انتشرت أضرحة الإمامزادات في فارس وأصبحت كلمة إمامزادة تشير إلى مقبرة أحد أحفاد الأئمة الاثني عشرية.. وعادة ما يصبح ضريحه قبله الزوار. إلا أن أكثر ما زاد هذا الضريح شهرة وذاع صيته وكان أكثر الأضرحة تميزًا؛ هو البلاطات الخزفية المصنوعة بتقنية البريق المعدني التي تضوي كالذهب سببًا لشهرة الضريح والقرية الصغيرة التي اتسعت لتكون بمثابة مدينة .. وتقع مقبرة إمامزادة يحيى حاليًّا وسط مجموعة من مقابر الدفن المخصصة لدفن عامة الناس في فرامين، وهي جميعها مقابر مسطحة لا تعلو عن سطح الأرض، باستثناء مقبرة الإمامزادة يحيى التي تأخذ شكل مربع ويعلوها قبة مدببة الشكل. وقد كانت مقبرة إمامزادة يحيى جزء من مجموعة معمارية تضم مسجد صغير ومقبرة أخرى، وذلك وفقًا لزيارة چان ديولافوا Jan Dieulafoy للمقبرة عام 1881م التي سجلت فيها وجود وحدات معمارية أخرى إلى جانب مقبرة الإمامزادة يحيى ومنها مقبرة ذو تخطيط مثمن، ومسجد. وقد رجحت أن المقبرة المثمنة والمسجد يرجع تاريخ إنشائهم إلى ما قبل العصر السلجوقي، أما مقبرة الإمامزادة يحيى فهي ترجع لعهد المغول الإيلخانيين وفقًا للتواريخ التي سبقت الإشارة إليها. ولكن عندما زار زارة الموقع في عام 1910م كانت أجزاء كثيرة من هذه الأبنية التي أشارت إليها ديولافوا قد تهدمت.. فأصبح اسم إمامزادة يحيى، واسم رامين ذائعًا في كبرى المتاحف بروائع خزفية تعد أنموذج متكامل لدارسي البلاطات والتكسيات الخزفية في تخصص الفنون الإسلامية إلى اليوم. ومنها محراب خزفي مميز موقع باسم الصانع علي بن محمد بن أبي طاهر واحد من مهرة الخزافيين في ذلك الوقت ومن عائلة فنية ذائعة الصيت ولها مكانتها في مدينة قاشان. ومن العلامات المميزة في «ورامين» بشكل خاص، وفي العمارة الإسلامية في عهد المغول الإيلخانيين بشكل عام؛ مسجد ورامين الجامع (مسجد الجمعة)؛ الذي أمر ببنائه السلطان المغولي أبي سعيد بهادرخان في 722- 726ه/ 1322- 1326م. أي بعد ما يقرب من مائة عام من نزوح أهل الري إليها. ليؤكد على استمرار تألق المدينة وازدهارها؛ الأمر الذي جعل السلطان/ حاكم البلاد يفكر في بناء مسجد جامع لها بعيدًا عن عاصمته بمئآت الأميال. وتأتي المفارقة التاريخية لتجعل من هذا المسجد الأنموذج الأكثر اكتمالاً وتفردًا في عمارة المغول. لينافس مسجد الجمعة في ورامين من حيث الأهمية التاريخية والفنية والمعمارية؛ قبة السلطان أولجايتو في السلطانية، ومسجد الوزير عليشاه في تبريز.. وليبقى إلى اليوم شاهد عيان على أحداث التاريخ وتقلباته. والمسجد الجامع في ورامين مستطيل الشكل، يتبع تخطيط الصحن المكشوف والأروقة والأربعة أواوين، كان له ثلاث مداخل – حاليًّا مدخلان فقط – ويتقدم إيوان القبلة حجرة مربعة مغطاة بقبة «كنبدخانة». وللمسجد أربعة واجهات خارجية، حيث أنه بناءً مستقل لا يتاخمه أية مباني أخرى. والمدخل الرئيسي الذي يقع في منتصف الواجهة الشمالية للمسجد. وكان للمسجد مئذنة ولكنها سقطت. ولكن مازالت آثار السلالم المستخدمة للصعود إليها باقية في نهاية الرواق الشرقي من جهة جدار القبلة، وبالرغم من أن الجانب الغربي من المسجد اختفى تمامًا بمرور الوقت إلا أنه قد تم استعادته بواسطة عمليات الترميم الكبرى التي تمت للمسجد في عام 1990م من قبل هيئة الآثار الإيرانية، أما بقية أجزاء وعناصر المسجد فهي في حالة جيدة من الحفظ. يحتوي المسجد على مجموعة من النقوش الكتابية المتنوعة من حيث الشكل والمضمون؛ بينهما نقشان كتابيان مؤرخان يشيران إلى أن المسجد تم بنائه في عهد السلطان أبي سعيد بهادرخان. وهما: 722ه و726ه. والنقش الموجود حاليًّا غير مكتمل، ولا نستطيع تميز كل كلمات النص، ولكن بالرجوع لصورة أرشيفية لهرتسفلد ترجع لعام 1931م؛ نجد أن الصورة وثقت لجزء لا بأس به كان في حالة جيدة تسمح بقراءة بعض الكلمات ومنها تاريخ 722ه. المذكور في السطر الثالث: (بن منصور القوهدي………22).أما التاريخ الثاني وهو 726ه فهو موجود في الشريط المتابي الدائر أسفل القبة التي تعلو حجرة المحراب «الكنبدخانه». وجدير بالذكر أن صدر إيوان القبلة يوجد نصان من نصوص التجديد تشير إلى محاولات شاهرخ – معين الدين شاهرخ بن تيمورلنك – يحتوي على أرقام تحمل تاريخ غير واضح بشكل جيد ربما يقرأ 815ه / 1412م. مما يعكس اهتمام الحكام بالمسجد الجامع وتجديده والاهتمام به وبأهل ورامين في عهد التيموريين. ثم نأتي بعد ذلك لواحدة من أكثر العلامات المميزة لورامين وهي مقبرة برجية الطراز تُعرف باسم برج علاء الدين والمؤرخة بتاريخ 688ه/ 1289م. وهي لا تبعد كثيرًا عن مسجد الجمعة. وقد أنشئت هذه المقبرة البرجية لـ علاء الدولة والدين المرتضى بن فخر الدين حسن، أحد حكام قرية ورامين المحليين، المتوفي سنة 675ه. وتم عمل مقبرة له في عام 688ه/ 1289م.. ومقبرة علاء الدين بورامين من المقابر البرجية، مبنية بالآجر، ذو مسقط دائري من الداخل. أما من الخارج فهي متعددة الأضلاع مكونة من 32 ضلع ذو زوايا شبه قائمة وكأنها سنون، وارتفاعه 17 متر، وله قبة مخروطية الشكل من الخارج. وأسفل القبة يوجد شريط كتابي بالخط الكوفي يشير بوضوح لتاريخ وفاة علاء الدين وتاريخ الفراغ من المقبرة. وبذلك تكون ورامين قرية صغيرة زادت مساحتها واتسعت رقعتها بزيادة عدد سكانها الأصليين والوافدين؛ وبالرغم من خسارتها لموقعها على طريق الحرير في منافسة قوية حسمتها تهران؛ إلا أنها احتلت الصدارة بين محبي الفن والعمارة والتاريخ بالرغم من صغر دورها التاريخي والسياسي.
مشاركة :