مدن الحرير ودروبه : نائين … روافد عباسية مخبأة على طريق الحرير

  • 10/14/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

بعد المكوث فترة ليست بقليلة في مدينة «أصفهان»؛ طننتٌ أن أية مدينة أو قرية أخرى في بلاد فارس وحضارتها؛ لن تستطيع إبهاري، وبالطبع لن تبلغ مكانتها ورونقها، ولن تصمد أمام منافستها؛ فـ «أصفهان نصف جهان» – أي نصف العالم – كما يعتقد أهلها، وأسهب في وصفها رحالة القرون الوسطى.. فإذا بهذه الصغيرة تأسر القلب، وتضرب بظنوني عرض الحائط؛ مؤكدة على أن بعض الجمال قد يختبئ ويتوارى عن الأعين ويحتاج بذلٌ ومثابرة كثيرة لاكتشافه وتذوقه.. إنها «نائين»؛ الساحرة المكنونة على طريق الحرير. 9DCB1376-021F-4752-95B7-10067CC78726هكذا بدأت علاقتي بـ «نائين» أو «نايين» كما يطلق عليها العامة؛ تلك القرية الصغيرة المختبئة على طريق التجارة الدولي الواصل بين يزد وأصفهان،وكلاهما (أصفهان ويزد) محطات مهمة لها وزن تاريخي وتجاري وسياسي على الطريق؛ فجاءت نائين كمحطة وسط بينهما تعجبت كثيرًا من توافد عدد كبير من السائحين لزيارة تلك القرية البسيطة في مظهرها، كيف جذبتهم وأجبرتهم على الزيارة، خاصة وأنها ليست ضمن قوائم الوجهات السياحية المعروفة للسائح الخارجي. كان المسجد الجامع هو أولى وجهاتي في هذه القرية البسيطة والثرية في الوقت نفسه؛ فقد جاءت زيارتي لنائين ومسجدها الجامع بعد جولات وطواف شرقًا وغربًا بين كثير من المساجد المبكرة، ومنها أقدم مساجد إيران الباقية «مسجد تاريخانه» في دامغان، و«مسجد فهرج» في يزد، ومسجد «بروجرد» وغيرها... وصولاً إلى «نائين»؛ فإذا بي أمام مسجد مُبهر يحمل بين طياته نكهة الإرث العباسي؛ كمدينة سامرائية الهوى، ضلت طريقها من بلاد الرافدين واستقرت في وسط فارس. فهو من أقدم المساجد المبكرة الباقية إلى اليوم؛ يحمل تاريخ المدينة وتاريخ الإسلام في فارس بشكل عام.فأدركت أنني منذ البداية قد أسأت الظن بهذه المدينة وبقدرتها على إبهاري وحفر حروف اسمها على جدار القلب إلى اليوم. يتميز مسجد نائين الجامع؛ بميزات عدة جعلته متفردًا بين المساجد التي تنتمي إلى عصره؛ فقد جمع بين التخطيط التقليدي للمساجد المبكرة فيالجزيرة العربية ومصر والشام وشمال إفريقية والمعتمد على نظام صحن أوسط مكشوف تحيط به الأروقة من الجهات الأربعة، وبين الشخصية الفنية المحلية لفارس في كثير من التفاصيل المعمارية والزخرفية. ففي سبعينيات القرن الماضي تمت عملية ترميم واسعة للمسجد؛ كشفت عن أن جدار القبلة مبنى بالطوب اللبن/ النئ وليس الآجر المحروق كباقي أجزاء المسجد مؤكدًا على أصالة الزخارف والنقوش الكتابية الواردة بهذا الجزء.ووفقًا لدراسات بعض الباحثين وعلى رأسهم فلوري فالزخارف الموجودة بالمسجد يرجع تاريخ لمنتصف القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي. لم تكن المئذنة جزء أساسي من عمارة المسجد وقت تشييده؛ حيث أُضيف بعد ذلك في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي. وهي مبنية من الآجر المحروق مثل أجزاء المسجد الباقية. وكان مسجد نائين محل اهتمام من الحكام المحليين وحكام إصفهان بشكل عام، ففي القرن الثامن الهجري في زمن المغول الإيلخانيين تم إضافة مدخل مميز يفتح على شارع جانبي لتسهيل الدخول إلى المسجد من أكثر من جهة. إلا أن أجمل هذه الإضافات هو «المنبر الخشبي» المؤرخ بعام 711ه، والذي ما زال قائمًا في مكانه ملاصقًا لمحراب جصي ينتمي هذا المحراب بروحه إلى مدينة سامراء وطرزها الفنية؛ ليجمع جدار القبلة بين إرث مغولي وآخر عباسي. A57DB3FF-138A-458B-8865-CD816A5B740AE080D0E5-C6F7-44BE-B365-D4A5EC0CB320ومن الموروثات المحلية التي عبرت وكشفت عن شخصية المعماري الإيراني في القرون الأولى المبكرة من دخول الإسلام لبلاد فارس؛ تلك الأعمدة الإسطوانية كبيرة الحجم/ القطر القصيرة؛ والمبنية بحطات من الآجر المعجون بروافد البيئة المحلية التي ولد واستُخدم فيها. فهناك عمودان بمثابة كنزٌ فني شاهدان على المزج الذي حدث بين الموروث والوافد. ومن مسجد نائين إلى قلعتها التي يعود تاريخها إلى قبل الإسلام، والتي تعرف كذلك باسم «قلعة نارين»، ولم يتبقى منها إلا نذر قليل يكشف عنتاريخها ومتانتها وصمودها كثيرًا رغم بساطة وهشاشة مادتها الخام التي كانت عامل من عوامل الضعف التي أفقدتها أجزاء كثيرة منها. ومن أطلال قلعة نائين إلى بازارها الذي ما زال عامرًا بالسجاد المحلي المصنوع على يد أهل نائين ولهم فيه بصمة واضحة تميزه عن سجاد تبريز ومراغة وكرمان وغيرها من المدن التي لها باع في هذه الصناعة. ومن الطرائف التي ما زالت موجودة إلى اليوم؛ الأكلات الشعبية المحلية التي اشتهرت بها نائين، والتي يتبارى أهلها في تجويدها وإضافة النكهات والزعفران لإكسابها شخصية مختلفة عن مأكولات يزد وأصفهان الشهيرة.. مؤكدين لكل وارد أن ما سيتذوقه هنا في نائين لن يجده في أي مكان آخر، وأن لا يغتر بحلويات يزد وأطياب أصفهان التي بالتأكيد جاء من واحدة منهم إلى مدينتهم الصغيرة. 719D92F2-F413-413F-8821-447B8AC69A7ADCD5B3B2-B560-4C5E-93DD-F12110D72EC0 رغم كل ذلك؛ تعجبت كثيرًا كيف لهذه المدينة أن تكون محطة على طريق الحرير؛ ليس لقلة شأنها بل لوجود مدينتان كبرتان هما يزد وأصفهان التي بالطبع كل منهما أكبر مساحة وأكثر انتشارًا بين الدروب المحلية. ولم تدم تلك العجبة كثيرًا فنائين تتوسط الطريق الواصل بين يزد وأصفهان من جهة، وتمثل حلقة اتصال محوري للمتجهين شمالاً إلى سمنان وغربًا إلى قاشان. وجميعهم مدن لها ثقل ومراكز تجارية مهمة على طريق التبادل التجاري الدولي، ومحطات مرور آمنة للتجار والمسافرين بشكل عام. وهو ما يؤكده الإرث الفني والمعماري المستمر في النمو والتطور على مدار قرون طويلة ليعكس حالة الثراء الذي عاشته وتعيشه نائين إلى اليوم رغم صغر مساحتها ووقوعها بين مخالب منافسين شرسين فنيًّا ومعماريًّا. فجاءت نائين مميزة في تفاصيلها وفي مكانتها في قلوب زائريها.

مشاركة :