لقد مت قبل ثلاثين عاما وها أنا الآن أطوف في السماء بروحى التى صارت بلا جسد بعد أن كانت جسدًا بلا روح..لا أقول لك ذلك لأرسم تلك اللمحة الحزينة على وجهك أو اسلب منك هذه الابتسامة التى عانت شفتيك كى ترسمها برقة، كل ما في الأمر إننى سعيد الآن، سعيد جدًا وجئت إليك لتسعد معى، ولكنك تعلم تماما مثلي أن السعادة تأتى بعد شقاء مرير فحاول أن تتحملنى ولو قليلا! قبل ثلاثين عاما كنت استيقظ يوميا في نفس الميعاد لأسير في نفس الشارع المؤدى لعملى وأقابل فيه نفس الأشخاص، أجلس على نفس الكرسى الضيق دون شكوى أو امتعاض، أمامى نفس الطاولة المكدسة بالأوراق التي لم تنته صلاحيتها ابدا بالرغم من انتهاء صلاحية صاحبها، إلى جانب سلسلة طويلة من "نفس" لو قصصتها عليك لأدرت ظهرك لى ورحلت في الحال. تلك كانت حياتى - إذا صح القول عليها حياة من الأساس- إلى أن همس لى الرب ذات يوم بصوت خافت فلم أسمعه فصعقني في معدتى في اليوم التالى بألم شديد. هنا سمعت صوت الخالق للمرة الأولى ولمست معنى الحياة في هذا العالم الرتيب، فصرت اتودد إليه أن يصيبنى بهذا الألم باستمرار كى أشعر أننى حى، أملك شيئا ما حتى لو كان موجعا.ولكن، لماذا لا أرى أثر صنعته فيما يحدث حولى، أريد أن أري يد الله في الكون، فجاءنى الرد سريعا وزاد الألم حتى تحول إلى وحش فتاك يعرف جيدًا أين يضرب فيصيب، فلم يكتف بتحويلى من الداخل إلى بقايا دمار ملقى بغير اهتمام بل أزاح تلك الغمامة التى عصبت بيها عيني طيلة ثلاثين عاما وآفاق عينى على أكثر من حقيقة.كانت أولها، أن الناس وقفوا هناك خارج نافذة حياتى يتأملون ملامحى الهادئة الجميلة ومنزلى الضخم، ابنى الذى يفوقنى وسامة وقد وضع العالم وراء ظهره وجاء ليؤنسنى وزوجته بعيدًا عن ليالى الوحدة الموحشة.لكنهم مخطئون، فلو حاولوا التمعن أكثر في تلك النافذة الضبابية وأزاحوا بأطراف أصابعهم قطع الثلوج المتراكمة لاكتشفوا حقيقة ذلك الرجل الذى استيقظ فجأة فوجد نفسه على وشك مغادرة الحياة دون أن يعرف ما هى الحياة من الأساس؟أما الحقيقة الثانية، عندما تعلم أن الموت أصبح وشيكا للفتك بك ستحاول معرفة بعض الأشياء وعلى رأسها الحب، ذلك الشعور الغامر الذى يغير حتى نظرتك للموت. فلا يوجد ما يضاهى عذوبة أن تموت برفقة شخص ما، تراه متشبثا بيدك أملا أن يعبر معك إلى العالم الآخر، تنهمر منه الدموع بصدق دون توقف مستعطفا الموت كي يتركك بين أحضانه ولو قليلًا من الوقت.كيف كنت سأكتشف كل ذلك لو لم يصبنى الموت؟ هل كنت سأتذوق الغروب واتحسس مذاقه الفريد في مقدمة حلقى؟ هل كان سيجذبنى للأعلى ويجعلنى أذوب داخل ألوانه البرتقالية الساحرة بكل تلك السهولة.. ثم يحررنى من كل شىء ويجعلنى أرفرف مع السعادة فاحتسها واحتضنها بين ذراعي.. ثم أضعها بكل حنان في قلبى فتدفعنى إلى أرجوحة في مكان جميل وهادئ ينهمر فيه الثلج بلا توقف فيسكن أطرافى الواهنة ويملأ عقلى بالراحة والسكون. سعادة أبدية ظللت سحبها الصيفية الناصعة على غمامة الوحدة والشقاء. سأزور تلك الأرجوحة بين الحين والآخر، سأدعها تداعب جسدى يمينا ويسارًا حتى تغمرنى السعادة من كل جانب وتنتقل إلى كافة أرجاء المكان فيأتى التعساء من بعدى آملين أن يبدلوا مرارة حيواتهم القصيرة.
مشاركة :