تونس – تدور أغلب أحداث القصص “خيال الموج”، المجموعة الجديدة للقاصة والكاتبة التونسية هيام الفرشيشي، في فضاءات بحرية. ومن بين القصص التي نجد فيها حضورا بارزا للموج نذكر القصة التي حملت المجموعة عنوانها “خيال الموج”، وقصص “طائر السماء”، “كوابيس مبقعة بماء المطر”، “للخفاش أثر”، ودارت أحداثها في مدن أثرية، جبلية، وأخرى صناعية، وكانت بمثابة النوافذ على عمق البحر وارتفاع موجه من شرفات عالية. تعددت صور الموج وأصواته في نصوص المجموعة القصصية، الصادرة عن “دار الثقافية للنشر” بتونس، وظلت انعكاسا للحالات الداخلية للشخصيات القصصية الباحثة عن الوحدة والعزلة أو الاستراحة من كوابيس الواقع، لينكشف الجانب المستتر من البحر صورا للواقع، بينما يمنحها الجانب الظاهر فسحة للتخيل والخلق، وبلورة ثنائية كوابيس الواقع ورؤى الإبداع. تنعكس مشاهد الواقع من خلال تأمل الموج وما يضج به هديره من صخب ورهبة، وتتحول الصور الخارجية إلى صور من اللاوعي، في تبادل واضح بين الظاهر والباطن، فكان الموج خير مرآة لحقيقة ما يجري ويتحرك دون هوادة، وخير قادح لبث شحنة الحركة الذهنية والروحية كلما تأملته الشخصيات باغتها الإبداع. علاقة الشخصيات بالموج علاقة قديمة ذات وشائج متواصلة، ترسخ حضورها علاقة مع الآخر القادم عن طريق الموج لينهب الثروات في قصة “طائر السماء”، مقدما نفسه كباحث في التاريخ القديم، وهو الآخر الذي توغل عميقا في رحلة النهب والتنقيب عن الكنوز في فضاء جبلي بعيد عن البحر في قصة “أهازيج ناي جنائزي” مستعينا بعصابات مسلحة متطرفة تذبح وتنكل بمن اقترب من مخابئها، بل هو الآخر المستعين بالشيخ ودراويشه في قصة “غافية على ركبة الزمن” لتهريب السلاح، وهو الآخر المستعين بصاحب العمامة للسيطرة على العقول واشتراء الذمم عن طريق المال في قصة “صاحب العمامة”، وهو من لقن عقيدة وطقوس النار في قصة “شياطين الغابة” لحرق الغابات وتشريد الناس وتهريب الفحم، الآخر المسيطر على الأذهان وعلى تحويل الشخصيات إلى حطب لمخططاته. وفي تناول الساردة لهذه المواضيع حاكت سردياتها لكشف المستتر من الأحداث. ويتدخل صوت الراوي في أكثر من قصة ليثير هذه النقاط كأن تجد الراوية في هدير الموج الصاخب صدى لحكايات منسية في أعماقه، في قصة “طائر السماء”. بل إن صوت الموج هو ارتداد للذاكرة البعيدة تستعيد صورا وأصواتا ووجوها آدمية وهلامية تجوب عبرها ذاتها منعطفات الماضي. وشبهت ما يحمله الآخر عبر الموج من سموم بمثابة الزبد في قصة “كوابيس مبقعة بماء المطر”، فحين يهدر يفرز رغوة الموج المتناثر، يرتطم على الرمل ثم يرتد للأعماق. تتحكم الساردة في خيوط لعبة القص انطلاقا من تجاربها الخاصة ومصادرها الذاتية في تشكيل المشاهد. فالهدف من الكتابة تشكيل تمثلات الذات في علاقتها بالواقع، الهدف من الكتابة التعبير عن الضوء وخصوبة الأعماق، والمرور إلى مرحلة الحلم. فللموج طاقة نورانية حين يمتزج بالشمس والمطر ليكتسب بعدا جديدا وهو اندفاع الحركة الباطنية وبعث الحياة واستمرارها في الوعي واللاوعي. ويتحول إلى رحم أمومي حين تغطس فيه الشمس عند المغيب وتشكل لوحة الأفق “وهي تتكور كقرص جمر أحمر أرسل لهبه، فتلونت السماء ببقع أرجوانية تتخللها ألوان رمادية وخضراء، ثم اقتحمت البحر وتمددت فوق الموج. فتوهجت بلون ذهبي يغطس في لجج الماء“. الموج يختزن كل عناصر الأمومة أمومة الماء العذب (المطر)، يحتضن نور الشمس، يحتضن الفتاة التي تغوص في أعماقه كأنها تعود إلى رحم أمها ليحميها من الواقع الخارجي الذي يهددها. أمومة الماء تغمر كل الشخصيات “الماء يهدهده والبخار يخضب مساماته”. فامتزاج ماء البحر بماء السماء يدل على ديمومة الخلق. وقد غمر الضوء الموج في أكثر من قصة “مغاور تتكسر على جدرانها الصخرية أشعة الشمس الحارقة. فينعكس النور على الموج كالمرايا تمنح المياه المالحة لمعانها وإشراقاتها“. إن إدراك الشخصية القصصية من خلال صور الموج وأفكارها هو إدراك وجودي واندماج نفسي. لنستخلص أن “خيال الموج” مجموعة قصصية تتعالى على الواقع وتعلو عليه عبر الإبحار الإبداعي.
مشاركة :