مشكلة الوباء تدفع الدول إلى تجديد نمط التفكير الاقتصادي | | صحيفة العرب

  • 10/17/2020
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

بينما تنهمك حكومات العالم في البحث عن مخرج لأزمة وباء كورونا، الذي زاد من تعميق معاناة الاقتصاد العالمي على نحو غير متوقع، ظهرت موجة من التحليلات الداعية إلى اعتماد نمط جديد من التفكير الاقتصادي للتأقلم مع الوضع، خاصة وأن المؤسسات المالية متعددة الجنسيات، على غرار صندوق النقد الدولي، اكتفت بتحليل ما يحدث دون أن يقدم خبراؤها على القطع مع الأسلوب القديم في إدارة الأزمات المالية. لندن- يعتمد نهج الاقتصاد الحالي بإطاره الرأسمالي المعولم على ما تخرج به الطاقات الكامنة في الأجيال الحالية من أفكار ومشاريع وتجارب، ولكن مع استمرار تأثيرات فايروس كوفيد – 19 على نشاط المال والأعمال في كافة البلدان دون استثناء، كان من الضروري الأخذ بزمام المبادرة في اعتماد نمط بديل للنظام الاقتصادي العالمي. وتشكل الأزمات الاقتصادية، في العادة، مدخلا للتفكير الاقتصادي الجديد، فمثلا أدى الكساد في فترات معينة خلال العقود الماضية إلى وضع أسس تتماشى مع المشكلة. وقد عززت الحرب العالمية الثانية دعم دولة الرفاهية والاقتصاد المختلط لكن المؤشرات التضخمية والصدمات النفطية، اللتين ظهرتا في سبعينات القرن الماضي، دفعتا بأفكار السوق الحرة إلى الصدارة. ويعتقد مارتن ساندبو الكاتب والمحلل الاقتصادي في صحيفة “فايننشال تايمز البريطانية” أن الجميع عليهم التوقع بأن تؤدي الجائحة، التي تعد أكبر اضطراب اقتصادي في الذاكرة الحية زمن السلم، إلى تحولات كبيرة في الإجماع على طبيعة السياسة الاقتصادية الجيدة لمعرفة اتجاه التغيير. وقبل تفجر أزمة الوباء كان نموذج الاقتصاد العالمي يتجه إلى تحول تدريجي تنحسر فيه الكثير من النشاطات الاقتصادية، حيث كانت نشاطات ما يعرف بـ”الشارع العام” تلفظ أنفاسها، في الوقت الذي تزحف فيه الأتمتة والتسوق الإلكتروني على الوظائف التقليدية. غير أنه ومع وقوف العالم على التداعيات المدمرة لكورونا باتت الحكومات تستوعب حجم الصدمة وسعت إلى اتخاذ أساليب تتماشى مع ما يحدث من تغيرات في ظل غياب حل جماعي يساعد على تجاوز هذه الورطة. وهنا يشير ساندبو، الذي قام بتأليف ثلاثة كتب عن أخلاقيات العمل واليورو واقتصاديات الانتماء، إلى صندوق النقد الدولي، والذي وصفه بـ”الوصي على الأرثوذكسية الاقتصادية”. ودأب الصندوق كل عام، وخلال الفترة التي تسبق الاجتماعات السنوية، بعد أسابيع من الآن، ينشر مجلس إدارة هذه المؤسسة المالية متعددة الجنسيات “الفصول التحليلية” لمنشوراته الرئيسية. وفي الواقع تتصدر توقعات النمو الصادرة في الاجتماعات عناوين الأخبار، لكن التحليلات الأساسية غالبا ما توفر نظرة أعمق للظروف الاقتصادية المتغيرة والحقائق المتغيرة في صنع السياسات الاقتصادية. ويقول ساندبو إن خبراء الصندوق هم بالكاد في طليعة المتشددين للنظرة الاقتصادية السائدة، التي لا تخرج عن أسلوب “إعطاء التوصيات بمقابل” لكنهم كانوا يدلّون على الطريق في الكثير من الأحيان حين تكون نخب صنع السياسة الاقتصادية في العالم جاهزة للتحرك. وأعطت أبحاث الصندوق في العقد الماضي، السلطة لعديد من حالات العدول عن الإجماع الموجود ووجهات نظره السابقة، كإعطاء الموافقة المشروطة لضوابط رأس المال ورفع مستوى فعالية التحفيز من المالية العامة. وقلل من شأن الضرر الذي يتوقعه من ارتفاع الدين العام. وفي كل حالة، سهلت الموافقة على الحكومات تغيير السياسة في الاتجاه المشار إليه. ومن هذا المنطلق يمكن إثارة تساؤل حول ما تفكير الصندوق اليوم؟ ولا شك أن التقارير التحليلية الثلاثة الأخيرة للصندوق جديرة بالملاحظة، حيث يقوم مراقب المالية العامة التابع له بتحليل الاستثمار العام، الذي كان في اتجاه تنازلي منذ بداية الألفية. وعند النظر إلى ما خلفه كورونا كانت إحدى النتائج المهمة هي أن التباعد الاجتماعي الطوعي قد يكون كابحا كبيرا للنشاط الاقتصادي مثل الإغلاق الذي تفرضه الحكومة. وهناك موضوع مشترك في هذه التحليلات حيث تدحض ما كان معتادا حول أن التدخل الحكومي في الاقتصاد، وإن كان لأسباب جيدة، لا بد أن يأتي بتكلفة في الكفاءة والنمو المفقودين. وهذا لا يعني أن الدولة بحاجة إلى أن تكون أكبر، لكنه يعني بالتأكيد أن القطاعين العام والخاص لديهما مصالح متعارضة أقل ممّا كان يفترض لعقود في صنع السياسات الاقتصادية. وكان أول افتراض يوجّه أي تحليل منذ العام 1945، هو أن الدولة هي الأفضل معرفة، ثم إن القطاع الخاص، ولكن اليوم يبدو أن الجميع على وشك تجاوز كليهما، لمصلحة رؤية اقتصادية عالمية قائمة على إيجاد طرق يمكن من خلالها للتدخل الحكومي أن يوجّه القطاع الخاص ليقوم بأداء أفضل. وبهذا المعنى، عاد التخطيط الاقتصادي والدولة الناشطة. وبتسليط الضوء على ما قالته كريستالينا جورجيفا مديرة الصندوق خلال مؤتمر صحافي الجمعة عقب اجتماع لجنة التوجيه في المؤسسة المالية الدولية من أن “التعاون العالمي القوي في شأن لقاحات لكوفيد – 19 ربما يسرع التعافي الاقتصادي العالمي ويضيف تسعة تريليونات دولار إلى الدخل العالمي بحلول 2025”، هل يمكن القول إن دعوتها ستنجح في ظل خلاف أميركي صيني عميق على عدة جبهات. ويرى الكثير من المحللين أن رفع الإغلاق يمكن أن يؤدي إلى انتعاش جزئي فقط في النشاط الاقتصادي إذا استمرت المخاطر الصحية وهذه الفكرة تحذر من رفع عمليات الإغلاق قبل الأوان على أمل تحفيز النشاط الاقتصادي. وأثبت الباحثون أن فوائد الإغلاق على الصحة العامة أكبر بكثير عندما يتم في وقت مبكر حين تكون معدلات الإصابة منخفضة، وعندما يتم تشديده بسرعة وليس تدريجيا. ونتيجة لذلك “السرد” المتعلق بالمقايضة بين الصحة العامة والاقتصاد “ينبغي إعادة النظر فيه”. صندوق النقد وثمة حجج على ذلك، فخبراء الصندوق قالوا في أحد تقاريرهم إن “هدف خفض صافي انبعاثات الكربون إلى الصفر بحلول 2050 في كل دولة يمكن تحقيقه من خلال حزمة سياسة شاملة صديقة للنمو خاصة على المدى القصير”. وبعبارة أخرى، لا توجد مقايضة بين الصحة والثروة، ولا مبادلة بين إزالة الكربون والنمو. ويشتمل مزيج السياسات المفضل لدى صندوق النقد على دعم مصادر الطاقة المتجددة، والاستثمارات العامة الخضراء، وإدخال زيادات حادة في أسعار الكربون، والتحويل المباشر لعائدات ضريبة الكربون إلى الأسر لجعل أفقر الناس على الأقل في وضع جيد مثل وضعهم من دون ارتفاع أسعار الكربون. ومنذ فترة بات نهج “ضريبة الكربون والأرباح”، التي يتباهى بها الصندوق، يتلقى دعما من الأحزاب الخضراء في الكثير من الدول، ومن الاقتصاديين في الحكومتين الفرنسية والألمانية وأعضاء الحزب الجمهوري الأميركي.

مشاركة :