يقول الأستاذ سمير عطا الله: «إن الإنسان عندما يدمن السفر يكتشف أن متعة الجديد ليست في مدن الأسماء والصيت. فعندما تصل إلى مدينة كبرى تشعر بأنك تعرفها من قبل، وأن كل شيء متوقع». ثم يستطرد عطاالله قائلاً: «الاكتشاف الحقيقي في الأمكنة النائية عن عادات السفر: في أدنبره لا في لندن . في دوبروفينك لا في بلغراد أو زغرب. في بافلو لا في مانهاتن». في ذلك العام قررت أن أخوض تجربةً مختلفة وأن أفعل عكس ماتعودت عليه . نظرت في خرائط الطقس أولاً إما وجهةٌ في نصف الكرة الجنوبي حيث الشتاء في تموز و إما الرحيل الى شمال العالم . وفيما كان كل شيء وسط أوروبا وأسفلها حاراً متأثراً بردة فعل الطبيعة تجاه فظائع بني البشر وتلوثهم ، كانت تلك البقعة من العالم غائمةً ليل نهار ولم تجرؤ درجاتها على تخطي عتبة العشرين درجة.فمثلي يرغب في الاختباء عن الشمس ولو قليلاً علني أشتاق لضيائها . حتى كتابة هذا المقال ، كنت أصرح باسم المدينة الجميلة ، الى أن قررت إخفاءها بعدما شاهدته من ويلات بعض السياح الذين اذا دخلوا قرية أفسدوا فيها! والذين أربأ بقراء هذه السطور أن يكونوا منهم وأترك لخيالهم تصور مكانها. مدينتي مثل ذاك المقهى ذي الكراسي الناصعة البياض التي تستند اليها وسائد ذات نقشات مشجرة مبهجة كأنها من تصميم لورا آشلي وعلى كل كرسي بطانية صغيرة لزوم البرد ، طلبت ماأريد ونسيت الحساب وسرت للجلوس خارجاً فلم تجرؤ الفتاة ابنة صاحب المحل على تذكيري تأدباً ، حتى الحيوانات هنا مؤدبة ! أكلت نصف الفطيرة وتركت نصفها الآخر عندما حط عصفور على طاولتي وكأنه عصفور استطلاع ، أكملت قراءة مابيدي وتركته ينقر الفتات في الصحن ، وبعد لحظات لحق به زملاؤه أو ربما أقرباؤه ، ربما قال لهم الأول : أنظروا.. هذا العربي لايؤذي ولا يقتل أحداً ! ، هذا هو المشهد باختصار. راودتني مشاعر عديدة خلال الرحلة ، لكن أكثرها عمقاً كان إحساسي بالألم تجاه الأوقات والأموال التي ضيعتها في بلادٍ لايشعر المرء فيها بالأمان، ولا الامتنان من سكانها تجاهه. لا أذكر متى كانت آخر مرةٍ سلكت فيها طريقاً للنزل ليلاً (خارج الوطن) وكلي شعورُُ بالأمان. للحديث بقية.
مشاركة :